“لا توجد منطقة وسطى في الحرب على الفساد.. إما الفساد أو تونس” بهذه العبارات شدد رئيس الحكومة يوسف الشاهد في خطابه مؤخرا أمام البرلمان حول جدية الحملة الحكومية لمكافحة الفساد التي أشعلت جدلا واسعا في الشارع التونسي منذ بداية تطبيقها نهاية شهر مايو/آيار الماضي.
لكن بداية “الحرب الفساد” كانت منطلقا لجدل واسع حول فعاليتها وقدرتها على احتواء هذه الظاهرة التي أضرت كثيرا بالاقتصاد التونسي. فهذه الظاهرة تكلف تونس سنويا ما بين 3 و4 نقاط في نسبة النمو الاقتصادي، وذلك حسب تصريحات رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب.
ولعل مثل هذه الأرقام قد تكون مطابقة للأرقام الرسمية التي صرح بها رئيس الحكومة أمام البرلمان، حيث أشار إلى أنه تم منذ سبتمبر/أيلول من السنة الماضية إلى غاية يونيو/جوان الماضي حجز بضائع مهربة قيمتها حوالي مليار دينار (400 ميون دولار).
غول الفساد
وإضافة إلى ذلك تم حجز مبالغ مالية لدى بعض من رجال الأعمال المقبوض عليهم في إطار الحرب على الفساد بلغت قيمتها 700 مليون دينار (300 مليون دولار).
أرقام مهولة تطرح حجم الفساد والاقتصاد الموازي، ولكنها قد لا تعكس كبر الظاهرة التي تضرب الاقتصاد التونسي، حيث يرى رئيس تحرير موقع مال وأعمال التونسي العربي الصامتي في حديثه لـ”مراسلون” أن الحرب على “الفساد هو عقلية بالأساس”.
ويضيف الصامتي “هذا الغول يكلف الدولة خسائر كبيرة على مستوى الصفقات العمومية حيث تشير الإحصائيات الى ان الفساد يشكل 25% من إجمالي الصفقات العمومية”.
وهذه الصفقات تشرف عليها إدارات المؤسسات التابعة للدولة. ويرى الصامتي أن “الحرب على الفساد ليست مجرد اعتقالات لرجال أعمال بل هي قرارات صارمة تمس بالأساس أجهزة الإدارة”.
ويضيف أن “ضعف الناتج المحلي التونسي الذي هو في حدود 80 مليار دينار (35 مليار دولار) يعكس في واقع حجم الفساد داخل الدولة”، مبينا أن “السيولة النقدية متوفرة ولكنها تتحرك في الاقتصاد الموازي، ولا تحسب ضمن الدورة الاقتصادية المعروفة”.
جدل تشريعي
ولا يعكس كلام الخبير بالشؤون الاقتصادية العربي الصامتي إلا الجدل الذي تعيشه تونس على وقع هذه الحرب، وهو جدل سياسي وتشريعي عاشته البلاد خاصة فيما يتعلق بالتشريعات الخاصة بمكافحة الفساد، وأبرزها تلك المتعلقة بالقانون المنظم للهيئة الوطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد الذي تمت المصادقة عليه الأسبوع الجاري.
فرئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب رأى أن القانون المصادق عليه هو “خيانة وتراجعا عن روح الدستور”، خاصة وأنه لم يمنح صلاحيات قضائية واسعة طالبت بها الهيئة في مشروع القانون لكنها اصطدمت برفض واسع من النواب، وأغلبهم نواب الائتلاف الحاكم.
ويشير الطبيب إلى أن رفض النواب منح الهيئة مثل هذه الصلاحيات “يكشف في العلن عن رغبة كانت مخفية من نواب مجلس الشعب في عرقلة عمل الهيئة”.
وهذه الاتهامات حاول نواب الائتلاف الحاكم دحضها بشدة، حيث أجمع أغلب نواب الأحزاب الحاكمة على أنهم يدعمون الحرب على الفساد، وأن للهيئة صلاحيات واسعة للعمل، ولكنها لا يجب أن تخرج أعمالها عن أنظار القضاء.
لكن النائبة سامية عبو عن حزب التيار الديمقراطي وصفت نواب الائتلاف الحاكم بـ”الانفصام”، قائلة ” في الوقت الذي تجتمعون فيه لتمرير قانون لمكافحة الفساد تشرعون الفساد من خلال التصويت على مشروع قانون المصالحة الاقتصادية ضمن لجنة التشريع العام”، في إشارة إلى تصديق لجنة التشريع العام بالبرلمان على قانون يعفو على إداريين وموظفين تورطوا بالفساد.
حملة انتقائية؟
ولا يعكس هذا الجدل حول التشريعات بين مختلف الأطراف المتداخلة فيه، إلا جدلا آخر أكثر توهجا، ضرب “جهود الحكومة” في الصميم. فترى بعض أحزاب المعارضة وخاصة منها الجبهة الشعبية أن حرب الحكومة على الفساد هي حرب “انتقائية وقائمة على أساس تصفية حسابات سياسية في إطار حرب خفية بين رجال أعمال يؤثرون على قرارات الأحزاب السياسية الحاكمة”.
لكن رئيس الحكومة يوسف الشاهد رفض تلك الاتهامات في الجلسة العامة مشيرا في هذا الإطار إلى أن شعار الحكومة “في مكافحة الفساد هو لا حصانة لأي كان ومن أخطأ لابد أن يحاسب دون اي تمييز وطبقية”.
غير أن الخبير الاقتصادي العربي الصامتي يقول لـ”مراسلون” إنه “لا توجد استراتيجية واضحة ذات ملامح بارزة لمكافحة الفساد”.
ويرى محدثنا أنه من شروط نجاح هذه الحرب هو الاستمرارية فيها وهو “ما لا يبدو متوفرا اليوم خاصة وأن عديد النواب قد رأوا أن فيها انتقاء وأن لها أهداف سياسية”.
ولا يخفي هذا الجدل حول جدية الحرب على الفساد في تونس سوى جدل آخر لا يقل أهمية عنه وهو تعبئة موارد الدولة من أجل صرف أجور الموظفين لشهر أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول القادمين في ظل تنامي عجز الموازنة (6 بالمائة) وهو ما جعل عديد المراقبين يرون بأنه لا مجال للرجوع على الوراء في الحرب على الفساد باعتبارها نوع من الاستثمار الذي يمكن الدولة من تعبئة أموال مصادرة.