ليبيا هي ثاني دولة عربية بعد دولة الجزائر تبنت مشروع زراعة السحب لمواجهة شح الأمطار في منطقتها الجغرافية، ليبلغ رصيدها الزمني قرابة نصف قرن من الزمان. بدأ المشروع عندما أبرمت وزارة الإصلاح والتأهيل الزراعي عام 1971 اتفاقية لزراعة السحب في ليبيا مع شركة سيرا (C.I.C ) الأمريكية، واقتصر الأمر في البداية على أن تكون الاتفاقية مشروعاً للبحث العلمي، ولدراسة المنطقة جغرافياً ومناخياً، وللحد من ظاهرة التصحر.
4 طائرات للزرع
“مراسلون” توجه لمقر مركز استمطار السحب بمطار طرابلس العالمي، الذي بدا متهالكاً من الخارج نتيجة تعرضه للقذائف أثناء الاشتباكات المسلحة التي اندلعت في يوليو 2014 بعد انطلاق ما تعرف بعملية “فجر ليبيا”.
داخل المقر لا يختلف كثيراً عن خارجه، فقد طالت مكاتبه ومعداته أيادي التخريب والسرقة، وهناك التقينا الكابتن طيار سالم الوحيشي مدير المركز ومنفذ أول عملية زراعة سحب في ليبيا.
يتحدث الوحيشي قائلاً “التحقت بالمشروع عام 1984 رفقة كل من الطيار الطاهر برقان و الطيار يونس ارتيمة، وكان ذلك بعد تلقيهم دورة في كندا استمرت لعامين”، وفي تلك السنة أجروا أول عملية زراعة سحب تحت إشرافه، حيث كان من يقوم بالعملية قبل ذلك أطقم طيران أمريكية وكندية.
يوضح “الوحيشي” أن عملية استمطار السحب تبدأ من شهر مارس حتي شهر سبتمبر من كل عام، حيث في كل صباح تأتي للطيار تقارير من قسم العمليات بالمواقع، فيها البيانات والإحداثيات والمعلومات حول السحب، لتقلع الطائرة مباشرة نحوها محملة بحوالي 200 خرطوشة من مادة يوديد الفضة، يكون وزن كل خرطوشة 160 جرام، مثبتة في أسفل الطائرة أو في الأجنحة، وعند قذفها تستغرق حوالى 45 ثانية لمسافة 1500 متر لتولد 20 جرام من يوديد الفضة علي السحابة.
أما الطائرة المستخدمة في عملية الزراعة فلها مواصفات مختلفة يقول الوحيشي، فهي أخف وزنا من العادية وتحليقها يكون على ارتفاع منخفض، بالإضافة إلى أنها مزودة بأجهزة ورادارات خاصة، وزمن تحليقها لايتعدى 6 ساعات. وبخصوص الطائرات التي يستخدمها المركز يكشف الوحيشي أن لديهم 4 طائرات، استغنى المركز عن 3 منها لقدمها وانتهاء صلاحية عملها، أما الرابعة التي تم شراؤها مستعملة من ألمانيا عام 2004 موجودة حاليا في مالطا لغرض الصيانة.
كوادر وطنية
استمر تواجد الطاقم الأجنبي في المركز منذ تأسيسه حتى العام 1987، بعدها أصبح المشروع يدار بكوادر وطنية خالصة في كافة التخصصات، حيث وصل العدد إلى 69 عنصراً، منهم 6 طيارين. الكابتن طيار “محسن راجح” الذي كان مديراً للمشروع من سنة 2005 حتى 2014 أضاف لـ”مراسلون” أن المركز نفذ 338 عملية زراعة سحب في الفترة من عام 2006 إلى 2010، استخدم فيها 560 خرطوشة.
بالإضافة لعمليات الزرع ، فقط كان للمركز قبل عام 2010 نشاط دائم متجدد تجاوز حدود ليبيا يقول راجح، حيث قام سنة 1988 بتنفيذ تجربة عملية لزراعة السحب في منطقة (تيهارت) بجبال أطلس بجمهورية الجزائر، وفي العام 1990 شارك في اليونان مع شركة انتيرا الكندية، وتلقى دعوة سنة 1990 من الحكومة السورية ولكن الظروف حالت دون المشاركة فيه، كما تلقى عروض للعمل في الهند وجنوب إفريقيا.
الجدوى الاقتصادية
في بداية المشروع اختيرت ثلاثة مواقع لإجراء التجارب، وهي غريان وسلوق وبومبا يقول أحمد بوشعالة عضو هيئة التدريس بقسم الجغرافيا بجامعة طرابلس، لتُستبدل بعدها عند بداية العمل سنة 1980 بمواقع أخرى وهي سهل الجفارة وسرت والمرج وجميعها مدن ساحلية. بوشعالة أرجع اختيار تلك المناطق إلى نسبة كثافة السحب الباردة القادمة من البحر المتوسط، “ولولا نقص الإمكانات” لتوسع المشروع ليصل مناطق أخرى كمنطقة غدامس التي تأتيها السحب من الجزء الغربي بحسب بوشعالة.
وعن ماذا استفادت ليبيا من المشروع يجيب المهندس يونس الفنادي الباحث في مجال الأرصاد الجوية، بأن المشروع رفع نسبة زيادة كمية الأمطار إلى 2% قرب طرابلس، و10% فى منطقة غريان، وحوالي 5% على طول الساحل الشمالي لمنطقة بنغازي وأكثر من 20% قرب اجدابيا.
انتقادات شديدة
وبالرغم من اجتهادات المركز المستمرة إلا أنه لم يسلم من الانتقادات الكبيرة الموجهة له، حيث تركزت معظم الانتقادات على حجم الميزانيات المقدمة للمشروع منذ ولادته مع عدم وجود نتائج كبيرة على أرض الواقع. وعلى هذه الانتقادات يرد مصطفي العرادي رئيس قسم العمليات أن المركز بذل قصارى جهده لتحقيق نتائج هي أقصى ما يمكن خلقها، ويؤكد أن للمشروع جوانب إيجابية أخرى غير عمليات الزراعة، كالأبحاث العلمية المتعلقة بالطقس والمناخ والأرصاد والزراعة، وأيضا تقديم دراسات كثيرة للحد من التصحر ومكافحة الجراد، “وهذا مايجب أن يستوعبه المنتقدون”.
ومن ضمن “الهجمات” يقول العرادي إن هناك دولاً مجاورة تتهم المشروع بأخذ حقها من كمية السحب الذاهبة إليها، “وهذا غير صحيح” يرد العرادي أيضاً، فحسب كلامه أن هذه السحب تحت سيادة الدولة الليبية، واستغلالها حق كفله القانون والاتفاقيات الدولية، والذين أثاروا هذه الضجة ليس لديهم دراية وبعد نظر بالخصوص.
وكان المركز قد نفذ أول عملية في نوفمبر 1981 عن طريق شركة CIC الأمريكية، وعام 1984 وتحديدا في مارس تم تنفيذ أول عملية بكوادر وطنية، واستمرت عمليات الزرع حتى أكتوبر 2010، توقف المشروع بعدها بسبب اندلاع ثورة فبراير بداية 2011، وعندما انتهت الثورة لم يتلق المشروع الدعم الكافي لاستكمال مسيرته، فكل ما هو موجود على أرض الواقع هو معدات وأجهزة معظمها لا تعمل، وبقايا مقر يفتح أبوابه بين الفترة والأخرى من باب “تحليل لقمة العيش” كما يختتم سالم الوحيشي مدير المركز حديثه مع “مراسلون”.