في العاصمة الجزائر، هذه المدينة الّتي يقطنها أكثر من أربعة مليون شخص و الّتي عانت مدّة طويلة من شحّ الموارد المائيّة، أُعطيت الأولوية لتوفيرها و تمكنّت الدّولة من حلّ المشكلة بنجاح وهذا باللّجوء إلى شركة فرنسيّة من أجل تسيير الإمداد بها. فقد أصبح كابوس انتظار تدفّق مياه الصنبور من الماضي كما لم تشهد المدينة أحداث شغب بسبب العطش منذ سنوات طويلة. سكّان العاصمة مثلهم كمثل سكّان المدن الكبرى الأخرى ينعمون اليوم بالمياه على مدار السّاعة. “وإن قضينا فترة من الزّمن لا تنسى بلياليها الطّوال الّتي كنّا نقضيها في انتظار تدفّق المياه من الصّنبور فقد تخلّصنا منذ مدّة من شبح الصفائح و الأوعية الّتي كنّا نستعملها لتخزين المياه، ولم يعد بإمكاننا تصوّر الحياة و لو ليوم واحد بدون إمداد مستمرّ بالماء“، يقول سعيد القاطن بحسين داي أحد الأحياء الشّعبيّة بالجزائر العاصمة.
لكن إذا كان سكّان الجزائر ينعمون بالمياه دون انقطاع فهذا يعود للاستثمارات الضخمة الّتي قامت بها الدّولة في مجال التّزويد بالماء الشّروب منذ 2001. فقد عبّأت الدّولة حوالي 25 مليار أورو من أجل بناء السّدود و محطّات تحلية مياه البحر و كذلك توسيع شبكات التّوزيع. 98 بالمائة من بيوت الجزائريين موصولة اليوم بشبكات توزيع المياه، و لم يبقى إلّا القليل منها تعطّلت مشاريع إنجازها لأسباب إداريّة أو أنّه يتعذّر ربطها بهذه الشّبكات و يفترض تزويدها بطرق أخرى كالآبار. في الجزائر العاصمة مثلا، دخلت محطّة الحامّة الخدمة في فيفري/فبراير 2008 بقدرة إنتاجيّة تقدّر ب 200000 متر مكعّب في اليوم و تموّن جزءا كبيرا من أحياء المدينة. بقية الأحياء تشرب من مياه سدّ تاقصابت الّذي يبعد 180 كلم عن العاصمة. و يسيّر الإمداد بالمياه الشّروب في ولاية الجزائر و الولاية المجاورة الشّركة الفرنسيّة “سييز” في إطار عقد تسيير مدّته خمس سنوات و قيمته 100 مليون أورو.
محطّة الحامّة و سدّ تاقصابت جزء من الهياكل القاعديّة المنتشرة في شمال البلاد ويوجد في الجزائر اليوم 84 سدّا بقدرة تخزين إجماليّة تقدّر ب 8 مليار متر مكعّب بالإضافة الى 11 محطة لتحلية مياه البحر قدرتها الانتاجية الاجمالية 2.1 مليون متر مكعّب في اليوم. أهمّ هذه السّدود هو سدّ بني هارون الواقع بالشّمال الشّرقيّ و الّذي يعدّ أكبر مركّب هيدروليكيّ بالبلد تقدّر سعته بمليار متر مكعّب. بداية إنجازه كانت في 1969 مع الدّراسات الّتي أجرتها شركة سوناطراك ولم يدخل الخدمة إلّا سنة 2008 يعني أربعون سنة من بعد (انظر الروبورتاج ).
ضياع نصف الكميّة الموزّعة
يقوم بتوزيع المياه الشّروب أساسا الشّركة الوطنيّة “الجزائريّة للمياه”. فهي تضمن إمداد 23مليون ساكن عبر 795 بلدية في 44 ولاية من أصل 1541 بلدية. وتتكفّل شركات أجنبية بتسيير المياه في ولايات الجزائر العاصمة و تيبازة و قسنطينة و وهران عبر 123 بلدية (7مليون ساكن). فبالإضافة إلى شركة “سييز” الّتي تسير المياه بالعاصمة و تيبازة تسيّر شركة فرنسيّة أخرى، “لا مارسيييز دي زو”، المياه بقسنطينة و الشركة الإسبانيّة “أجبار أجوا” بوهران في إطار عقود مماثلة. أمّا باقي البلديّات 632 و الّتي يقارب عدد سكّانها العشرة ملايين فتسيّره البلديات نفسها.
يضمن هذا النّظام المتعدّد تزويد 75 بالمائة من السّاكنة يوميا بالمياه، 40 بالمائة منهم يستفيدون من الإمداد غير المنقطع (13 مليون ساكن)، تزويد 16 بالمائة يوما بيوم و 9 بالمائة كلّ ثلاثة أيّام. فإذا كانت المشكلة قد حلّت في المدن الكبرى، يبقى المشكل مطروحا في عدد من المناطق كولايتي تبسة و سوق أهراس على الحدود الشّرقية مع تونس (أنظر الروبورتاج). “المشكل لا يكمن في ندرة المياه إذ تتوفّر السّدود على كميّات كافية، لكن في تسيير هذه الموارد. حيث تضيع نصف الكميات الّتي تضخّ في شبكات التّوزيع إمّا بسبب التّسرّبات المنجرّة عن اهتراء هذه الشّبكات أو ظاهرة التوصيلات غير الشّرعية تهرّبا من دفع المستحقّات“، يشرح وزير الموارد المائية السّابق عبد القادر والي. هذا التّصريح الّي أدلى به الوزير والي في تبسة خلال لقاء جمعه مع إطارات القطاع في اوت/أغسطس 2016 يبيّن حجم ضياع هذا المورد الحيويّ. ضياع تتحمّل مسؤوليته –و بغضّ النظرعن السّلوكات غير الحضاريّة للبعض – المؤسّسات الّتي تشرف على توزيعه. فهناك تسرّبات أقلّ في المدن الّتي تديرها شركات أجنبيّة كما أنّ هذه الشّركات تجتهد في فوترة خدماتها لأكبر قدر ممكن من المستفيدين ممّا تضخّه من المياه. و لحدّ السّاعة يعتبر فشل الشّركة الألمانيّة “قليسن واسر” في عنابة والطّارف – والّتي تمّ فسخ عقدها في 2011 لعدم احتراماتها لالتزاماتها– استثناء.
باختصار تنتج الجزائر 3.6 مليار متر مكعّب و يقدرمعدّل استهلاك الفرد ب 180 لتر. هذه المؤشّرات الّتي هي إيجابية نسبيا هي نتاج استثمارات ضخمة قامت بها الدّولة من أجل تطوير الهياكل القاعديّة وكذلك التّسيير الّذي يكلّفها الكثير. فهل بإمكان الدّولة الاستمرار بتحمّل كلّ هذه الأعباء في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الّتي تضرب البلد منذ انهيار اسعار النّفط بداية من جوان 2014 ؟
إلى متى يباع الماء بالدّينار الرّمزيّ؟
تُفوتر الخدمة العموميّة للإمداد بالماء الشّروب كلّ ثلاثة أشهر. وتحتسب الأسعار على أساس سلّم تقييم يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الزّبون، عاديا كان أم متعاملا اقتصاديّا أو إدارة عموميّة، كميّة الاستهلاك وكذلك المنطقة الجغرافيّة. فعلى سبيل المثال، يحسب المتر المكعّب في مناطق الجزائر قسنطينة ووهران ب 6.3 دينار جزائري (5 سنتيمات اورو) و في منطقة ورقلة ب 5.8 دينار جزائري. لكن إذا ما زادت كميّة الاستهلاك عن 25 متر مكعّب خلال الثّلاثي فيتضاعف السّعر بضربه في معامل محدّد. بالنّسبة للشّطر الثّاني المحصور بين 26 و 55 متر مكعّب يفوتر المتر المكعّب ب 20.5 دينار جزائري (16 سنتيم اورو)، و يكلّف المتر المكعّب للشّطر الثاّلث المحصور بين 56 و 82 متر مكعب 34.6 دينار جزائري (28 سنتيم اورو) ويكلّف 41 دينار (32 سنتيم اورو) بالنّسبة للشّطر الرّابع والأخير. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ سعر الماء ثابت فيما يخصّ الإدارات العموميّة (34.6 دج) و الوحدات الصناعيّة (41 دج). كما يدفع الزّبائن اشتراكا يقدّر ب 960 دينار في السّنة (8 أورو) و بعض الرّسوم و الإتاوات. لكنّ هذا النّظام الّذي يراد به قمع المبذّرين بتقريب سعر الماء من كلفته الحقيقيّة، تبقى الأسعار المطبّقة بعيدة عن هذه الكلفة الّتي تقدّر بحوالي 50دينار للمتر المكعّب (40 سنتيم اورو). وتدفع الدّولة أموالا طائلة للمؤسّسات الّتي تضمن هذه الخدمة العموميّة من أجل المحافظة على السّعر الاجتماعيّ للماء. تخصّص الدّولة سنويّا ميزانية قدرها 250 مليون اورو من اجل حماية المنشآت كما تدفع مبالغ معتبرة حتّى تضمن التّوازن الماليّ للجزائريّة للمياه. فالدّولة هي من يدفع الفارق بين السّعر الاقتصادي للماء و السعر الاجتماعي المطبق على الزّبائن (450 مليون أورو خلال الفترة الممتدّة من 2011 الى 2015 اي بمعدّل 90 مليون أورو سنويّا).
يجمع المتتبّعون للشّأن الاقتصاديّ الجزائريّ أنّه من غير الممكن الاستمرار في سياسة الدّعم المطّبقة حاليا. “النّموذج الاجتماعي الحالي المبني على دعم السّلع والخدمات غير فعّال وينجم عنه تبذير كبير للموارد، ونظرا للصّعوبات الّتي حالت دون تجريب نموذج مبني على إعانات موجّهة، يتطلّب الوضع إيجاد حلول مبتكرة تخرج البلد من المأزق الّذي هو فيه الآن“، تشدّد منظّمة “نبني” للتّزويد بالنصائح و التّحليلات والّتي تقترح بدل نظام الدّعم الحالي إنشاء منحة تدفع لذوي الدّخل الضّعيف وتحرير أسعار السّلع والخدمات من أجل تمكين الشّركات القائمة على الخدمة العموميّة من توازن حساباتها و أن تحسّن من خدماتها من دون اتّكال على الدّولة. بيد أنّ الدّولة سائرة لحدّ الآن في النّهج المتعارف عليه. هذا ما أكّده آخر اجتماع لمجلس الوزراء المنعقد في 14 جوان الفارط والّذي اعتمد برنامج الحكومة الجديدة الّذي صودق عليه يوم 23 جوان من طرف الغرفة السفلى للبرلمان. هذا ما أكّده آخر اجتماع لمجلس الوزراء المنعقد في 14 جوان/يونيو الفارط. لكن إلى متى؟