لم تكن زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى تونس مطلع الشهر الجاري إلا تنفيذا لاستراتيجية مضبوطة تعمل من خلالها برلين على تخفيف الضغط عليها وعلى أوروبا التي تعاني من تدفق كبير للهجرة غير الشرعية وتدفق هجرة اللاجئين.
وهذه المعضلة التي تعاني منها أوروبا عامة وألمانيا خاصة أخذت شكل كرة ثلج تؤثر في صنع القرار الأوروبي لدرجة أن ثقل أحزاب اليمين المتطرف تنامى بعد الهجمات الإرهابية وقبل جزء من الأوروبيين منطق محاربة الإرهاب بمكافحة الهجرة.
لم تكن زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى تونس مطلع الشهر الجاري إلا تنفيذا لاستراتيجية مضبوطة تعمل من خلالها برلين على تخفيف الضغط عليها وعلى أوروبا التي تعاني من تدفق كبير للهجرة غير الشرعية وتدفق هجرة اللاجئين.
وهذه المعضلة التي تعاني منها أوروبا عامة وألمانيا خاصة أخذت شكل كرة ثلج تؤثر في صنع القرار الأوروبي لدرجة أن ثقل أحزاب اليمين المتطرف تنامى بعد الهجمات الإرهابية وقبل جزء من الأوروبيين منطق محاربة الإرهاب بمكافحة الهجرة.
ولعل ما حملته ميركل ضمن زيارتها إلى تونس مطلب واضح يصفه البعض على أنه مقايضة بحتة بين إرجاع المهاجرين غير الشرعيين الى تونس (1500 مهاجر) مقابل تقديم مساعدات مالية وتمويل مشاريع تعليمية وتنموية تحتاجها تونس.
وملامح هذه المقايضة تجلت بوضوح في خطاب ميركل أمام البرلمان التونسي الذي استعملت فيه لغتها الأم لتختصر رسالتها الموصومة بسياسة العصا والجزرة حيث لوحت بتقديم المساعدات مقابل إرجاع المهاجرين غير الشرعيين “ولو بالقوة”.
ومثل هذا المنطق المباشر لم يقف عند حدود معضلة تدفق المهاجرين غير الشرعيين فميركل لمحت للحكومة التونسية بأن بلدها ومن وراءه الاتحاد الأوروبي لديهم رغبة في مساعدة تونس اقتصاديا ولكن “في اطار حكومة قوية” كما تقول.
وما من شك أن هذا الخطاب يحمل عديد الرسائل للسلطات التونسية برؤسائها الثلاث (رئيس الجمهورية، رئيس البرلمان، رئيس الحكومة) وأولها أن هناك إقرار مبطن بأن الحكومة التونسية تتخبط في الأزمات بسبب هشاشة وضعف أجهزة الدولة.
وسبق أن أعلنت برلين عن استيائها من الحكومة التونسية عقب عملية الدهس التي قام بها أنيس العامري الإرهابي التونسي المنتمي لتنظيم الدولة والذي رأت برلين في عدم قبول بلده بترحيله تهاونا رغم أن السلطات التونسية تنفي هذا الاتهام.
ولعل العملية الإرهابية التي قام بها أنيس العامري على متن شاحنة كبيرة يوم 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي والتي أودت بحياة 12 شخصا وجرح العشرات قد سرّعت من تغيّر لهجة برلين تجاه تونس فيما يتعلق بمكافحة الهجرة غير الشرعية.
ولا تختلف مسيرة العامري الذي هاجر سرا عبر البحر باتجاه إيطاليا سنة 2011 عن الكثير من المهاجرين الذين وقع سجنهم ثم استقطابهم في السجون أم المساجد أم عبر الإنترنت أم غير ذلك في أوروبا ما جعل أحزاب اليمين الأوروبية في حالة غليان.
والمتابع للشأن السياسي في أوروبا يلاحظ بوضوح تصاعد خطاب الكراهية ضد المهاجرين واللاجئين على حد سواء ولاسيما لدى الأوساط اليمينية المتطرفة التي أصبحت تلعب ورقة مقاومة الإرهاب عبر تضييق الخناق على المهاجرين الغير الشرعيين.
ولكن برلين تعلم جيدا أنه لا يمكن إخماد حريق ملف الهجرة الغير الشرعية فقط بمنطق القوة لذلك اتجهت نحو عمق المشكل لدعم تنمية المناطق الفقيرة والمهمشة في تونس التي قدم منها أغلب المهاجرين السريين باتجاه أوروبا بحثا عن حياة أفضل.
وأنيس العامري كان من ضمن هؤلاء الذين أتوا من مدينة الوسلاتية من محافظة القيروان التي تعاني من التهميش وانعدام المشاريع التنموية وهي نفس المدينة التي “صدّرت” كثيرا من الإرهابيين إلى بؤر التوتر وارتبط اسمها بالإرهاب الدولي.
وقد اقترحت ميركل على تونس في محاور هذه الاتفاقية تقديم المساعدة في مكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر والجريمة المنظمة بالإضافة إلى دعم تبادل الخبرات والمعلومات، وهو ما يعني تعزيز التعاون الاستخباراتي بين البلدين.
لكن يبدو أن مضمون الاتفاقية الموقعة بين تونس وألمانيا بشأن الهجرة السرية قد تم قبولها على مضض من قبل تونس جراء الضغط الشديد الذي مورس عليها نتيجة ارتباط أسماء بعض من مواطنيها باعتداءات إرهابية ارتكبت بأوروبا.
ويمكن من خلال تصريح الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي استنتاج أن الموقف الرسمي من تطبيق الاتفاقية مع ألمانيا يتوقف على احترام برلين لتعهداتها بتقديم الدعم لتونس حيث يقول السبسي إن “تونس ستحترم اتفاقاتها إذا ما احترمت الدول الأخرى تعهداتها”.
وللسبسي تجربة سابقة مع الوعود الأوروبية فقد تلقى تعهدات كبيرة عند مشاركته في قمة “دوفيل” بفرنسا بمشاركة سبع دول كبرى سنة 2011 لدعم تونس اقتصاديا لكن تلك الوعود بقيت حبرا على ورق ما جعل الاقتصاد التونسي يترنح.
كما فشل اتفاق سابق بين تونس وإيطاليا بعد الثورة لإعادة 22 ألف مهاجر تونسي غير شرعي رغم الضغوطات التي مارسها رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني على رئيس الحكومة آنذاك الباجي قايد السبسي وذلك بسبب غياب مساعدات حقيقية.
لكن يبدو أنه مع استمرار موجة الهجرة وتضخمها أصبحت ألمانيا مطالبة بإيجاد استراتيجية شاملة لمكافحة الهجرة غير الشرعية، عبر اتفاقيات ثنائية بدأت من دول المصدر للمهاجرين وأبرزها من دول الشرق الأوسط وكذلك من دول إفريقيا جنوب الصحراء.
وهذا الملف يمثل تحديا كبيرا لإدارة ميركل التي تقود ألمانيا منذ 2005 وتسعى لولاية رابعة في انتخابات سبتمبر القادم لكن حظوظها في الفوز في الانتخابات التشريعية القادمة تقلصت مع صعود الحزب الاشتراكي الديمقراطي ومتزعمه مارتن شولتز.
وقد يركز شولتز في خطابه على تغيير سياسة الهجرة التي انتهجتها ميركل وربطها بمقتضيات الأمن القومي الألماني وهو ما ساعده على استبعاد حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني الذي يبني أطروحاته على تخويف الألمان من المهاجرين.
في المقابل تحاول ميركل اللعب على نفس الأوتار بعقد اتفاقيات ثنائية لمواجهة الهجرة أبرزها الاتفاق مع تركيا واتفاق مع مصر ومع دول إفريقية وخاصة مع النيجر وآخرها الاتفاق الهجرة مع تونس والذي يشمل كذلك مراقبة السواحل الليبية.
ويبدو أن العقلانية السياسية الألمانية أخذت تتجه إلى فرض الأمر الواقع فبعدما كانت تعتبر ميركل أن تدفق المهاجرين إلى بلادها “فرصة لألمانيا”، أصبحت الحسابات البراغماتية الألمانية تجاه هذا الملف مختلفة خاصة بعد عملية برلين الإرهابية وهو ما ينبئ بصعود قوى جديدة على السطح تستعمل الشعبوية سلاحا لها وهو سلاح ثبت نجاحه في بلاد العم سام، وهو الآن في طور التجريب في بلاد ايمانويل كانط.