“تاريخياً تعتبر مهنة الطبيلة (المسحراتي) من المهن التخصصية التي تمارسها عائلات معينة، وحسب العرف الاجتماعي السائد لا يحق لغيرهم ممارستها باعتباره حقاً لهم ورثوه عن أجدادهم”، بهذا يدافع الحاج البهلول عن مهنته ومهنة أجداده، التي ترك ممارستها مجبراً في سبعينيات القرن الماضي، ولا زال يحن إليها.
“تاريخياً تعتبر مهنة الطبيلة (المسحراتي) من المهن التخصصية التي تمارسها عائلات معينة، وحسب العرف الاجتماعي السائد لا يحق لغيرهم ممارستها باعتباره حقاً لهم ورثوه عن أجدادهم”، بهذا يدافع الحاج البهلول عن مهنته ومهنة أجداده، التي ترك ممارستها مجبراً في سبعينيات القرن الماضي، ولا زال يحن إليها.
الحاج البهلول – 79 سنة – هو من القلائل الذين مارسوا هذه المهنة في ليبيا ولازالوا على قيد الحياة، تردد كثيراً قبل أن يتحدث لـ”مراسلون”، ووافق بعد تدخل أحد أصدقائه بشرط عدم ذكر اسمه الحقيقي، عند الحديث إليه وجدناه بصحة جيدة ويتمتع بذاكرة تحفظ أدق تفاصيل مهنته التي أحبها.
مهنة عريقة
الطبيلة في طرابلس والدبداب في زواره والنفـّار في مدن المغرب والمسحراتي في المشرق، كلها أسماء لمهنة واحدة ارتبطت في الوجدان الشعبي بالأجواء الرمضانية الحميمية الدافئة، كان صاحبها يجوب الشوارع والأزقة والحواري ضارباً على طبله أو عازفاً على مزماره مردداً أهازيج تنساب في سكون الليل إلى البيوت للتنبيه بموعد السحور وقرب صلاة الفجر.
عائلة البهلول من أقدم من مارس المهنة في طرابلس حيث مارسها جده في أواخر العهد التركي وبداية العهد الإيطالي، ومارسها والده من أربعينيات إلى ستينيات القرن الماضي.
وتولى هو المهمة بعد وفاة والده، وتعلم أصولها صغيراً حيث كان يرافق والده في الجولات الليلية، وكانت بالنسبة له “ليست مجرد عمل بقدر ماهي أمانة انتقلت لي من أجدادي، كان يجب أن أحافظ عليها، وكنت أتمنى أن يمارسها أبنائي، إلا أنها توقفت عندي بعد رفضهم تعلمها، وبعد أن رأيت عدم رغبتهم في استمراري في هذه المهنة، فتركتها استجابة لرغبتهم رغم تعلقي بها” ولا يخفي البهلول ألمه من هذا الموقف حين يقول “من المؤسف والمؤلم أن يخجل الأبناء والأحفاد من مهنة مباركة مارسها الأجداد”.
ازدهرت مهنة المسحراتي حسب الحاج البهلول في عهد الأتراك والقرمانليين، حيث كانت تحظى بمتابعة ورعاية الولاة، وتعامل معها الإيطاليون والإنجليز فترة حكمهم كطقس ديني يجب احترامه ولم يتعرضوا لها، وكذلك شهدت اهتماماً في عهد الاستقلال، ولكنها ظلت مهنة أهلية أي أن الأهالي هم من كان يدفع أجرة الطبّال في نهاية الشهر.
يقسمون الحواري
لا يستسيغ الطبال السابق كيف أصبحت المهنة مؤخراً (في الثمانينات والتسعينات) تُمارس من قبل “مجموعة أشخاص غير ثابثين تفرضهم الظروف”.
حيث يروي المهندس بشير الفلاح الباحث في التراث الشعبي وهو من سكان المدينة القديمة بطرابلس أن مهنة الطبيلة كان يمارسها في العقود الأخيرة مجموعة من الرجال “يقسمون الحواري فيما بينهم، بحيث يلتزم كل شخص بمنطقته”.
وآخر من مارس المهنة في المدينة القديمة حسب الفلاح هم أبوبكر حميد منطقته من شارع سيدي عمران إلى الباب الجديد، وأبوعجيلة الساهى ومنطقته زنقة زعطوط وزنقة أبودبره وكوشة الصفار، وجميل الميموني ومنطقته الحاره الكبيرة والصغيرة وقوس البسطي.
وجميع هؤلاء يقول الفلاح “أجبرتهم ظروفهم الاقتصادية على القيام بهذا العمل”، فكان كل واحد منهم يحمل بازه (طبله) ويدق عليه منادياً “شهر الخير ياشهر الخير قوموا للسحور يامسملين – ساهر الليل ياساهر الليل يادار البركة يادار الخير – قوموا للسحور يامؤمنين”.
شخصيات قصصية
شخصية المسحراتي كانت من الشخصيات المغرية لنسج الحكايات خاصة وهو يدور وحيداً رفقة طبلته يردد أهازيجه في سكون الليل وقت السحور، ما جعله يكتسب حيزاً خاصة في نفوس السكان، حيث يقول محمد خليفة – 57 عاماً – “كنا ونحن صغاراً نتخيل أن الطبال مخلوق خرافي غريب يختلف عن بقية البشر”، وذلك لحضوره القوي في عالم الحكايات التي كانت تروى للأطفال.
ويتحسر خليفة الذي يسكن المدينة القديمة على عادات رمضانية كثيرة كانت تضفي جواً خاصاً على هذا الشهر وجميعها اختفت اليوم مع تبدل الزمن ونمط الحياة، ومن تلك العادات مدفع الإفطار “الذي كان ينطلق من برج السرايا الحمراء بطرابلس وقت الإفطار ليعلن حل الصيام، هذه العادات الجميلة يصعب نسيانها رغم تخلي الناس عنها اليوم” يقول خليفة.
الدبداب الأخير
في زوارة (أقصى غرب ليبيا) ظل الدبداب (كلمة أمازيغية تعني ضارب الدبدبة أي الطبل) يجوب شوارع المدينة حتى منتصف التسعينات حسب قول حسين يخلف – 54 سنة – لـ”مرسلون”.
وآخر من تولى هذه المهمة في المدينة هو المرحوم محمد الهوش، وقبل وفاته بسنوات كان يصطحب معه ابنه الاكبر صلاح لكي يلقنه أصول المهنة التي ورثها عن أجداده، وبعد رحيل الوالد استلم الابن المهمة ولكن تجربة الجيل الجديد مع هذه المهنة لم تستمر طويلاً بسبب رحيل صلاح المبكر بعد وقت قصير من رحيل والده، وبوفاتهما فقدت المدينة تقليداً من التقاليد العريقة التي ارتبطت بشهر رمضان.
من الأشياء التي يتذكرها بن يخلف عن الدبداب كيف كان عند التنبيه لوقت السحور “تيسكارين” بالأمازيغية، ومع اقتراب موعد الإمساك الذي يتزامن مع نهاية جولة الدبداب يقف أمام بيت أحد الميسورين مادياً ويدق على بابه، فيعرف أصحاب البيت أن الدبداب يريد سحوره، فيتم إكرامه بأحسن ما لديهم، وكثيراً ما يتجاوز الإكرام مجرد وجبة السحور.
حل العيد!!
أما المهمة الأكثر متعة للدبداب فكانت التبليغ عن حلول عيد الفطر حيث كان “يتجمع الأطفال حول ذلك الرجل الأسمر الطويل المرح وهو يسير بطبلته في الشوارع، وهم يسيرون خلفه يصفقون ويرددون في فرح وسرور الدبداب الدبداب” يقول بن يخلف.
أما في طرابلس ففي آخر ليلة من رمضان وبعد التأكد من حلول عيد الفطر حسب كلام بشير الفلاح، يستبدل الطبّال بازه بالزكرة أو النوبة وهما من آلات النفخ الموسيقية الشعبية، وكان يعزف عليها مرددا كلمات أغنية تركية تقول (إيكو كوزين باي افندم يكون من البركات) وتعني “هذا هو فلان الرائع ربي يشمله بالبركة”، ويقف أمام البيوت ويغني لأصغر طفل في العائلة باسمه، وفي تلك الأثناء وضمن مشاهد فرجوية جميلة كانت الناس تعطية الصدقات والعطايا مقابل عمله طيلة الشهر الكريم.
هذا الوقت من العام يكون هو موعد “جمع الغلة” التى يساهم فيها الجميع، حيت يكرمه أهالي المدينة مقابل عمله، والكل كان يحرص على تقديم شيء له حسب قدرته ولو القليل، وبعد الانتهاء من جولته الأخيرة يعود إلى بيته محملاً بما جمع، داعياً لسكان مدينته بطول العمر وسعة الرزق ودوام الخير، منتظراً عاماً جديداً لينفض الغبار عن طبلته وتتكرر نفس المشاهد.