طرق عديدة تؤدي إلى أهرامات الحطية الواقعة على بعد 1128 كيلو متراً جنوب طرابلس. أهمها الطريق الذي يعبر وادي الآجال انطلاقاً من أوباري في اتجاه جرمه ومنها إلى عمق الصحراء.
الأهرامات التي تنتصب تحت الشمس لازالت شاهداً على حضارة الجرمنت العريقة التي قامت في تلك المنطقة منذ أكثر من 3000 سنة، وامتد نفوذها حتى ساحل المتوسط شمالاً.
طرق عديدة تؤدي إلى أهرامات الحطية الواقعة على بعد 1128 كيلو متراً جنوب طرابلس. أهمها الطريق الذي يعبر وادي الآجال انطلاقاً من أوباري في اتجاه جرمه ومنها إلى عمق الصحراء.
الأهرامات التي تنتصب تحت الشمس لازالت شاهداً على حضارة الجرمنت العريقة التي قامت في تلك المنطقة منذ أكثر من 3000 سنة، وامتد نفوذها حتى ساحل المتوسط شمالاً.
من أوباري، بوابة الصحراء وأكبر مدن الوادي الذي يمتد على شكل أخدود منخفض من الأرض ما بين حمادة مرزق من الجنوب وكثبان صحراء أوباري من الشمال، وفي منتصف الطريق بينها وبين جرمه تقع الأهرامات التي تم اكتشافها مدفونة في الرمال خمسينيات القرن الماضي.
حضارة الصحراء الكبرى
الوصول إلى الإهرامات الليبية يتطلب المرور عبر جرمه ورؤية متحفها وحارسها الأسطوري جبل “زنكيكرا” الذي كان الحصن الطبيعي المنيع للجرمنت، والشاهد على أعظم حضارة عرفتها الصحراء الكبرى.
فعلى جدران كهوفه نقش رسامو تلك الحقبة مشاهد من حياتهم اليومية، وعلى صخوره تركوا ومضات من حروف التفيناغ، وعلى سفحه مارسوا الزراعة والرعي بعد أن اكتشفوا سر استغلال المياه الجوفية، وسر استخدامها في حياتهم اليومية، وفي بناء حضارة متطورة تفوقت بالإضافة إلى الزراعة والرعي واستغلال المياه في علوم أخرى، كالهندسة والتحنيط والجغرافيا والفلك والتجارة والاقتصاد.
ليس بعيداً عن “زنكيكرا” وبعد مسير 25 دقيقة بالسيارة في طريق معبد لا يخلو من مشاهد تشد عشاق الصحراء ومحبيها، تلوح في الأفق أهرامات الحطية الصامدة في وجه الزمن وعوامل التعرية منذ ما يزيد عن ثلاث آلاف سنة، لتبقى شاهداً على حضارة سادت هذا الوادي وسيطرت في أوجها على منطقة واسعة من الصحراء تبلغ مساحتها حوالي 300 ألف كيلومتر مربع، وهددت في ذلك الحين المدن الواقعة على ساحل البحر المتوسط وشعوب منطقة جنوب الصحراء في تشاد والنيجر، كما يؤكد عالم الآثار البريطاني ديفيد ماتينغلي.
قبور الجرمنت
تعرف هذه الأهرامات محلياً بـ”جبانة الحطية” أي مقابر الحطية، فالجرمنت رغم اهتمامهم بالمساكن أكثر من القبور إلا أنهم كغيرهم من الشعوب القديمة عرفوا طرقاً عديدة للدفن، كالدائرية والمربعة والموزاليوم والهرمية، وحرصوا على وضع شواهد على قبورهم كانت عبارة عن إما مسلات من الحجر بارتفاع لا يزيد على المترين، أو على شكل قرنين، أو على شكل الكف (الخميسة)، أو على شكل المثلث رمز الإلهة “تانيت”، وكانت توضع من الناحية الغربية المقابلة لمشرق الشمس أو الناحية الشرقية المقابلة لمغربها، كما أشار إلى ذلك د. رجب الأثرم في كتابه محاضرات في تاريخ ليبيا القديم.
أهرامات الحطية كما يقول خبير الآثار الليبية د. محمود النمس عبارة عن قبور مبنية من أحجار اللبن، على شكل حفرة مستديرة قطرها بين المتر والسته أمتار، وارتفاعها من أربعة إلى خمسة أمتار، بعمق لا يتجاوز المتر، مرصوصة من الداخل بجدار من الأحجار.
الجثة – حسب الخبير – كانت تسجى على شكل جنين في حجرة الدفن أسفل الهرم، وتوضع معها بعض الأدوات الفخارية، ويقفل القبر بوضع حجر أو حجرين فوقه لمنع الحيوانات من الوصول للجثة.
وحسب د. النمس فقد تم إلى الآن حصر عشرين هرماً، البعض منها في حالة جيدة والبعض الآخر أثرت فيه عوامل الطبيعة، وبعضها دمر على أيدي لصوص المقابر والآثار، وهذه الأهرامات “ربما تكون من أندر وأجمل وأكبر القبور التي عثر عليها، وهي الاكتشاف الأهم في الوادي إلا أنها ليست الوحيدة”، يقول الخبير، فالأبحاث أشارت إلى وجود أهرامات أصغر في منطقة “الخرائق” في وادي الآجال.
الجرمنت والفراعنة
فكرة أهرامات الجرمنت والفراعنة واحده كما يرى د. شوقي ابراهيم معمر باحث الاستيطان القديم وأستاذ التاريخ في جامعة الزاوية، الذي قال لـ”مراسلون” إن العديد من الباحثين يتفقون على وجود “علاقة وطيدة بين أهرامات الحطية التي يعود تاريخها للقرن الثاني قبل الميلاد والجيزة التي تعود للألف الثانية قبل الميلاد”.
ذلك أن فكرة الدفن الهرمي انبثقت عند الإنسان من الجبال، حسب معمر، حيث دفن موتاه داخل الكهوف ثم أعلى الجبل ثم في حافته، فالارتباط وطيد وتاريخي وفلسفي بين الإنسان والجبال. يضيف الباحث أن “أقدم نماذج للقبور الهرمية هي قبور ما قبل التاريخ التي تنتشر في الصحراء الليبية، حيث عثر على العديد منها بنيت بأحجام صغيرة لا ترقى إلى مستوى عمارة أهرامات مصر ولكنها تحمل نفس الفكرة”.
انبهار وأسف
هذه الأهرامات نالت اهتمام الباحثين وحازت أيضاً على إعجاب السواح وانبهارهم، خصوصاً أن أغلبهم كان يعتقد أن الفراعنة والازتك هم من انفردوا ببناء الأهرامات دون غيرهم، وذلك وفق شهادات نقلها لـ”مراسلون” المرافق السياحي شكري فطيس.
أما المصور والباحث كمال أبو زيد الذي زار أهرامات الحطية رفقة مجموعات سياحية عدة، فروى أن أبرز ردود الأفعال على زيارة أهرامات الحطية كانت الأسف على الإهمال الذي طالها، وأيضاً عدم تصديق عمرها.
ويتفق فطيس وأبو زيد على أن الإهمال طال أغلب المعالم السياحية، وأن ليبيا فقدت الكثير من آثارها نتيجة العبث والتدمير والسرقة.
صيانة أم تشويه؟
يقول د. شوقي معمر إنه في نهاية تسعينيات القرن الماضي كانت أهرامات الحطية مهددة بالاندثار نتيجة عوامل التعرية وعدم صمود المادة الطينية وغياب الاهتمام والمتابعة، فقامت مصلحة الآثار وقتها بترميمها ولكن بطريقة غيرت من شكلها.
يرجع معمر هذا الخلل في عملية الصيانة إلى انعدام الخبرة لدى من قاموا به. فالترميم يجب أن يعيد الشكل الأصلي للمعلم دون تشويه، وبالمقارنة بين صور الأهرامات قبل وبعد الصيانة نلاحظ الفارق بينهما في الشكل الهرمي.
ولكن هل ما حدث كان فعلاً نتيجة انعدام الخبرات كما يرى د. شوقي أم أنه كان إهمالاً متعمداً لحقبة من تاريخ ليبيا؟
أجاب عالم التاريخ الانجليزي ديفيد ماتينغلي عن هذا التساؤل في مقال نشر قبل سنوات في صحيفة الدراسات الليبية التاريخية، واصفاً الاكتشافات الأخيرة حول حضارة الجرمنت بـ”غير العادية”، إذ تثبت قيامهم بحركة تجارية كبيرة عبر الصحراء قبل حقبة طويلة من التاريخ الإسلامي المدون للمنطقة، ولكن “تلك الاكتشافات المذهلة كلها انتهت على مكتب القذافي الذي لم يكن يبدي أي اهتمام بهذه الحضارة”.
عدم اهتمام النظام السابق بالحضارة الجرمنتية وصل لدرجة عدم ذكرها في المناهج التعليمية خلال عهده على الإطلاق. وإذ يتأسف د. ماتنغلي على هذا الوضع يعبر أيضاً عن أمله في أن يتغير هذا الوضع مستقبلاً.
يقول أبو صلاح الطاهر ابن مدينة الحطية إنه “سواءً تغير هذا الوضع أو لم يتغير، ورغم جميع محاولات الطمس والتهميش تبقى حضارة الجرمنت صفحة مشرفة من تاريخ ليبيا ومصدر اعتزاز لنا”.
حسب الطاهر فإن أهل مدينته يعتبرون “جبانة الحطية” كنزاً لا يقدر بثمن، وتعبيراً صادقاً عن حضارة الأسلاف الذين برعوا في شتى العلوم، وبنوا لملوكهم “قبوراً رائعة لازالت صامدة وستصمد رغم كل التهديدات إلى أن تجد من يعرف قيمتها وكيف يحافظ عليها”.