الانطلاقة المتعثرة لجلسات الحوار الوطني التونسي مطلع شهر تشرين أول/أكتوبر، ومرة ثانية في شهر تشرين ثان/نوفمبر، لم تكشف فقط عن التعقيدات الكثيرة التي يعرفها المشهد السياسي في تونس أو عن حجم التباينات القائمة بين مختلف الفرقاء السياسيين، وإنما أعادت من جديد طرح قضية الخلافات الداخلية التي تشهدها حركة النهضة الحاكمة.
الانطلاقة المتعثرة لجلسات الحوار الوطني التونسي مطلع شهر تشرين أول/أكتوبر، ومرة ثانية في شهر تشرين ثان/نوفمبر، لم تكشف فقط عن التعقيدات الكثيرة التي يعرفها المشهد السياسي في تونس أو عن حجم التباينات القائمة بين مختلف الفرقاء السياسيين، وإنما أعادت من جديد طرح قضية الخلافات الداخلية التي تشهدها حركة النهضة الحاكمة.
قبل انقضاء أكثر من 48 ساعة على توقيع رئيس الحركة راشد الغنوشي على خارطة الطريق أصدر مجلس الشورى بياناً تضمّن جملة من النقاط التي تتناقض في جوهرها مع “مبادرة الرباعي لتسوية الأزمة السياسية”، الصادرة عن أربع منظمات تونسية هي اتحاد الشغل (نقابة) ومنظمة رجال الأعمال والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
المؤسّسات تقرر
ولئن كان البيان الصادر عن مجلس الشورى بخصوص الحوار الوطني يعكس في مجمله اختلافاً ظاهراً في التصورات السياسية داخل حركة النهضة، فإنه يدعو أيضاً إلى إعادة النظر في طبيعة مؤسسة الشورى والتناقضات التي تشقها وعلاقتها ببقية مؤسّسات الحركة وخصوصاً رئاسة الحركة، وعلاقتها بالكتلة النيابية للحزب في المجلس التأسيسي وممثلي الحركة في الحكم، إضافة إلى مدى تأثيرها في اتخاذ القرار السياسي للحركة وإدارة الخلافات داخلها.
ولعل أبرز المواقف التي ظهرت فيها الاختلافات داخل حركة النهضة كانت إعلان الأمين العام للحركة ورئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي عن رغبته في تشكيل حكومة “تكنوقراط” يوم 6 شباط/فبراير 2013 تاريخ اغتيال المعارض اليساري شكري بالعيد.
هذه الخطوة رفضها مجلس الشورى بشدة، ودفع نحو فرض خيار “تشكيل حكومة سياسية ائتلافية مستندة إلى شرعية انتخابات 23 أكتوبر”.
من جهته خفف هشام العريض، عضو مجلس الشورى ونجل رئيس الحكومة علي العريض، من شأن التجاذبات داخل الحركة، وقال لـ”مراسلون” إن التباين الحاصل بين رئيس الحركة راشد الغنوشي ومجلس الشورى بخصوص خارطة الطريق يعد أمراً طبيعياً، مشيراً إلى أن المجلس لا يختلف مع رئيس الحركة في تحديد آليات الخروج من الأزمة.
واعتبر هشام العريض أن الحركة تعج بالآراء والتصورات المختلفة والمتباينة، وتدار هذه الخلافات بالنقاش الديمقراطي، وبالاحتكام إلى مؤسسات الحركة التي يعتبر مجلس الشورى السلطة العليا داخلها والمعبّر الرئيسي عن رأي الحركة بصفة عامة. وأضاف العريض أن “الأشخاص يدلون بتصوراتهم وأفكارهم، ولكن في نهاية المطاف يعود الأمر إلى المؤسسات التي تتخذ القرارات ومن واجب الأشخاص الانضباط للقرارات التي يتم اتخاذها”.
رئيس الحركة هو ممثلها الرسمي؟
غير أن عضو مجلس الشورى ونائب رئيس الحركة، عبد الفتاح مورو، اعتبر في تصريح له لـ”مراسلون” أن تعدد الأطراف المتحدثة باسم الحركة قد يؤدي إلى الفوضى ويمس من مصداقيتها. وأكد أن كل حركة لديها جهة رسمية تلزمها، والممثل الرسمي لحركة النهضة هو رئيسها الشيخ راشد الغنوشي.
وفي الوقت ذاته نفى عبدالفتاح مورو وجود انقسام أو انفصال داخل الحركة على غرار ما تشهده بعض الأحزاب الأخرى، لكنه أشار إلى وجود العديد من الأطراف المتباينة داخلها والتي تدير اختلافاتها في إطار الاحتكام إلى مؤسسات الحركة.
هذا الموقف يظل محلّ شكوك بالنظر لما صرح به عضو مجلس الشورى السيد الفرجاني لوسائل الإعلام حين قال: “مجلس الشورى يتابع الحوار الوطني ويقيّم تصريحات ومواقف قياداته، لكن المجلس يمكن أن يتّخذ إجراءات ضد رئيس الحركة راشد الغنوشي نفسه، إذا اجتهد وقرّر أشياء في إطار الحوار لا تتناسق مع خيارات مجلس الشورى”.
ومن جهته اعتبر زياد لخضر، الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد والقيادي بالجبهة الشعبية حسب ما أفاد به لـ”مراسلون” أن الخلافات داخل النهضة هي خلافات حقيقية، وهي تعكس وجود مصالح ورؤى مختلفة يمكن استجلاؤها من خلال البيانات والمواقف. لكن هذه الخلافات حسب زياد لخضر تظل شأناً خاصاً بحركة النهضة ولا تعني المعارضة في شيء، حيث تتعامل هذه الأخيرة مع حركة النهضة عبر قنواتها الرسمية الملزمة والتي يمثلها إلى حد الآن رئيسها الشيخ راشد الغنوشي.
أما بخصوص تأثير الخلافات داخل حركة النهضة على مسار الحوار الوطني، فلم يستبعد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد أن تلقي هذه الخلافات بظلالها على الحوار، وهو ما يدعو بقية الأطراف إلى “المطالبة بضمانات أخرى في جلسات الحوار” على حد تعبيره.
اختلافات بسيطة
الاختلافات في وجهات النظر داخل حركة النهضة والتي تظهر إلى العلن، جعلت البعض يجزم بوجود بوادر انشقاقات فعلية تمهد إلى ضرب الوحدة التنظيمية للحركة، هذا الاستنتاج اعتبره قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري والمحلل السياسي “أمراً سابقاً لأوانه”. وقد أشار في تصريح أدلى به لـ”مراسلون” إلى أن هناك بالفعل اختلاف في وجهات النظر، وهناك تناقض يظهر عبر المواقف المعلنة بين شقين، شق معتدل وشق آخر يوصف بالتطرف والتشدد، وهناك مجموعة المهجر ومجموعة السجون.
ولكن كل هذه التناقضات حسب رأي الأستاذ قيس سعيد لم تبلغ بعد مرحلة الانشقاق ولم ترتق إلى مستوى التصدع، ولو كانت هناك بالفعل انشقاقات لظهر إلى العلن انفصال أو تصدع داخل الحركة وهو ما لم يحدث إلى حد الآن.
ولاحظ الأستاذ قيس سعيد أن “الانضباط الحزبي” يعتبر سيد الموقف في فض النزاعات داخل الحركة، ومن الأمثلة على ذلك انضباط الكتلة النيابية للحركة إلى مجلس الشورى أثناء التصويت لمشاريع القوانين داخل المجلس التأسيسي.
مجلس الشورى صاحب السلطة العليا
وفق النظام الأساسي لحركة النهضة المنقح في مؤتمرها الأخير سنة 2012، يحظى مجلس الشورى بسلطة أعلى من رئاسة الحركة ومن المكتب التنفيذي، فهو يمثل تقريباً السلطة الثانية داخل هياكل الحزب بعد المؤتمر العام.
ويتميز المجلس بتنوع تركيبته، حيث يتكون من150 عضواً؛ ثلثان ينتخبهم المؤتمرون بالاقتراع السري المباشر على أن يتولى الثلثان، في أول دورة لمجلس الشورى، اختيار الثلث الآخر على أساس تمثيل الكفاءات والجهات والمهجر والشباب والمرأة والكتلة النيابية والفريق الحكومي للحزب.
وينعقد مجلس الشورى كل ثلاثة أشهر وكلما دعت الضرورة بدعوة من رئيسه أو ثلث أعضائه أو بطلب من رئيس الحركة.
ويستمد مجلس الشورى سلطته العليا من المهام الموكلة إليه، إذ يتولى ضبط السياسات الكبرى وتحديد التوجهات العامة للحزب واختيار من يتولى، باسم الحزب، رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ورئاسة المجلس التشريعي.
ويتولى المجلس كذلك تحديد شروط وإجراءات اختيار مرشحي الحزب للانتخابات البرلمانية والجهوية والبلدية وغيرها. كما يتمتع مجلس الشورى ببعض الصلاحيات الهامة، من بينها مراقبة أعمال الجهاز التنفيذي للحركة وتزكية أعضاء المكتب التنفيذي وسحب الثقة من المكتب التنفيذي أو من أحد أعضائه.
وعُرِف مجلس الشورى منذ صعود حركة النهضة إلى سدة الحكم بتباين المواقف السياسية داخله، حتى أصبح العديد من المتابعين يتحدثون عن وجود جناحين داخله يقفان على طرفي نقيض. يطلق على الأول “الصقور”، وذلك في إشارة إلى الجناح المتشدد، ويطلق على الثاني “الحمائم” في إشارة إلى الجناح المعتدل.