بعد الثورة زالت كل الخطوط الحمراء أمام حرية التعبير. وساد الاعتقاد أن التونسيين سيحظون، أخيرا، بإعلام حر ومستقل غير موجه من أي طرف سياسي أو مالي. لكن هذا لم يتحقق من خلال تغطية وسائل الاعلام التونسية لما يدور من أحداث مؤخرا على الساحة السياسية والأمنية. وهو ما دفع بكثير من التونسيين إلى الاعتقاد أن الانتماءات السياسية وسطوة المال أصبحت هي المسيطر الأبرز على الإعلام التونسي.د
مع حكم الترويكا أم ضده ؟
بعد الثورة زالت كل الخطوط الحمراء أمام حرية التعبير. وساد الاعتقاد أن التونسيين سيحظون، أخيرا، بإعلام حر ومستقل غير موجه من أي طرف سياسي أو مالي. لكن هذا لم يتحقق من خلال تغطية وسائل الاعلام التونسية لما يدور من أحداث مؤخرا على الساحة السياسية والأمنية. وهو ما دفع بكثير من التونسيين إلى الاعتقاد أن الانتماءات السياسية وسطوة المال أصبحت هي المسيطر الأبرز على الإعلام التونسي.د
مع حكم الترويكا أم ضده ؟
يوم الأربعاء الموافق لـ 31 تموز/جويلية الماضي، تمت “مصادرة” برنامج الصحفية سعيدة الزغبي على موجات الاذاعة الوطنية (إذاعة عمومية تبث من العاصمة). وقام مدير البرمجة بالإذاعة بقطع البث، بعد أن اعتبر أن الخطاب المستعمل في البرنامج لم يلتزم بالحياد، وانه خطاب يشيع التشنج والخوف في الشارع.
وجاءت عملية القطع على خلفية تدخل مصطفى التّواتي أستاذ الحضارة الإسلامية بالجامعة التونسية الذي قدم قراءة تحليلية لأحداث العنف الأخيرة التي حصلت في تونس، وحمل الحكومة مسؤوليّة وقوعها.
وعلى امتداد الشهر نفسه جندت قنوات الزيتونة والمتوسط و”شبكة تونس الإخبارية” ساعات بثها للدفاع عن حكم الإخوان في مصر، وتغطية اعتصام الاخوان في ميدان رابعة العدوية دون غيره، وتناول كل الاحداث المصرية من زاوية تخدم الاخوان. ودعت الى تفادي تكرار السيناريو المصري بتونس والى عدم إسقاط الحكومة. علما وأن قناة الزيتونة يملكها أسامة بن سالم ابن وزير التعليم العالي، والقيادي البارز في حركة النهضة. في حين تصنف قناتي المتوسط و”شبكة تونس الإخبارية” بأنها مقربتان من حزب النهضة.
كما خرجت إذاعة الزيتونة العمومية، عن مبدأ الحياد، باعتبارها مرفقا عموميا، واستضافت في عديد المرات ضيوفا مرروا رسائل مفادها أن “كل مسلم يجب أن يكون إسلاميا” وقاموا بتكفير المعارضة ودعوا إلى الوقوف أمام زحفها ومحاربتها، وقد عايش مستمعو إذاعة الزيتونة كل هذا صبيحة يوم 13 تموز/جويلية 2013.
وفي الوقت الذي تنفي فيه عديد القنوات الشبهات الدائرة حولها والتي تتهمها بعدم الحيادية والانحياز لحركة النهضة، تم توزيع قصاصات تحت عنوان “قنوات الحق” تحمل شعار كل من شبكة تونس الإخبارية وقناة المتوسط وقناة الزيتونة وقناة الإنسان وقناة القلم.
وفيما تستميت وسائل الإعلام الموالية للحزب الحاكم في الدفاع عنه، توجد في المقابل قنوات تنتقد الحكومة باستمرار.
فقد اتجه الطاهر بن حسين، القيادي بحركة نداء تونس وصاحب قناة “الحوار التونسي”، إلى الدعوة الصريحة إلى الإطاحة بالترويكا وتكوين حكومة إنقاذ وطني. ودعا التونسيين عبر قناته إلى التجمهر أمام مقر المجلس التأسيسي بباردو وعدم مغادرته إلا في حال تخلي الترويكا عن الحكم وحل المجلس التأسيسي.
ولعلّ التباين في تغطية اعتصامين لا تفصلهما سوى بضعة أمتار، يكشف لا حيادية العديد من وسائل الإعلام التونسية، رغم نفيها لهذه الاتهامات. فالإسلاميون والإعلام الموالي لهم لا يرون سوى اعتصام القصبة والاعتصام الداعم للشرعية والحكومة، في حين لا يرى خصومهم سوى اعتصام الرحيل بباردو.
نحو حجب بعض البرامج
وكشف النوري اللجمي، رئيس الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري في اتصال مع “مراسلون”، وجود عديد التجاوزات على الساحة الإعلامية في هذه الفترة الحساسة من تاريخ تونس، “إذ لم تتوان العديد من وسائل الإعلام في نشر صور للفقيد محمد البراهمي عضو المجلس التأسيسي الذي تم اغتياله يوم 25 يوليو وعناصر الجيش التونسي الذين قتلوا في مواجهة مع الارهابيين وتم التنكيل بجثثهم يوم 29 يوليو”.
وقال اللجمي ان “في نشر هذه الصور عدم احترام لحقوق الإنسان وفقًا لمقتضيات العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وللفصل 5 من المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المحدث للهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري”.
وقال إن الصور كانت “صادمة للمشاهدين ومن الممكن أن تبث الرعب في قلوبهم وبذلك تخدم المخطط الإرهابي بطريقة غير مباشرة”
كما أشار إلى نشر بعض القنوات لمعلومات وأخبار خاطئة، في الفترة الأخيرة من شأنها أن تخدم أطرافا دون غيرها. وشدد على ضرورة التحري والتأكد من الخبر قبل نشره. كما دعا رئيس الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري، المسؤولين عن الوسائل الإعلامية إلى ضرورة الالتزام بالحرفية واحترام أخلاقيات المهنة وعدم الانسياق وراء بث البلبلة والفتنة وخدمة أطراف سياسية معينة.
وأمام هذه التجاوزات اقتصرت الإجراءات التي اتخذتها الهيئة على لفت نظر والتنبيه في هذه الفترة، حسب ما أفاد اللجمي الذي أكد أن الهيئة ستتخذ قرارات تتعلق بحجب بعض البرامج الداعية إلى الفتنة والخادمة لأحزاب سياسية، في الأسابيع القادمة إن لم يتم الالتزام بالبلاغات الصادرة عن الهيئة.
وأوضح لـ “مراسلون” أن هذا الإجراء “لا يعتبر تعديا على حرية التعبير إنما هو إجراء وقائي لضمان الابتعاد عن الفتنة ومخلفاتها”.
حرية الإعلام، حجر الزاوية
يرى الإعلامي رشيد خشانة أن حرية الإعلام تشكل حجر الزاوية في تجارب بناء أي نظام ديمقراطي، مثل التجربة التي تخوضها تونس منذ ثلاثين شهرا. إلا أن الحرية تقابلها دائما مسؤولية في كل المجالات، “مما يجعل من الضروري ضبط تخوم حرية التعبير وتحديد معايير ممارسة العمل الإعلامي بواسطة ضوابط أخلاقية ذاتية أولا مثل ميثاق شرف مهني، ثم بالردع عند الاقتضاء”.
واكد لـ “مراسلون” أن “وضع المعايير والضوابط لا يقيد الحرية أو يعرقل العمل الإعلامي بأي شكل من الأشكال، انما يضمن احترام ميثاق المهنة”. وأضاف “من هنا تأتي أهمية الهيئات التعديلية للإعلام التي ظهرت في مجتمعات عريقة في الديمقراطية، والتي أدت وتؤدي وظيفة أساسية في تلك المجتمعات”.
واعتبر خشانة أن الهيئة التعديلية للإعلام في تونس هي اللبنة الأولى في هذه البناء. مشيرا الى أن ” التجاوزات المسجلة في الفترة الأخيرة في بعض القنوات استوجبت توجيه لفت نظر إليها”. وبيّن أن بث صور بشعة لعسكريين مذبوحين على شاشات البعض من تلك القنوات بات يستوجب “إجراءات ردعية صارمة”، وفق تعبيره.
واعتبر رشيد خشانة ان الانحياز في بعض التغطيات، ليس على نفس الدرجة من الخطورة، “وإن كان المطلوب من جميع القنوات والمحطات الإذاعية إعطاء فرص متساوية للرأي والرأي المخالف كي يكون المشاهد أو المستمع على بينة من كل المواقف، فيُحدد موقعه بشكل موضوعي ومسؤول”.
وأمام تباين الخطاب الذي تقدمه وسائل الاعلام التونسية، والاتهامات المتبادلة فيما بينها، افتقد المشاهد بعضا من ثقته في هذه الوسائل بعد فترة آمن فيها بضرورة اعطاء فرصة اخرى للإعلام التونسي ليستعيد ثقة المواطن، مما جعل العديد يبحثون عن ضالتهم في شبكات التواصل الاجتماعي لإطفاء الظمأ الذي تتسبب فيه وسائل الاعلام العمومية والخاصة.