تناقض واضح يظهر بين خطابين حول حرية الإعلام في ليبيا يجعل الأمر يبدو كأننا نتكلم عن بلدين مختلفين، ففي الوقت الذي نشهد فيه قلقاً دولياً واحتجاجات داخلية بشأن القيود على حرية التعبير، تصف دار الإفتاء الحريات في ليبيا ومن بينها حرية التعبير بـ”المنفلتة”.
قلق دولي
تناقض واضح يظهر بين خطابين حول حرية الإعلام في ليبيا يجعل الأمر يبدو كأننا نتكلم عن بلدين مختلفين، ففي الوقت الذي نشهد فيه قلقاً دولياً واحتجاجات داخلية بشأن القيود على حرية التعبير، تصف دار الإفتاء الحريات في ليبيا ومن بينها حرية التعبير بـ”المنفلتة”.
قلق دولي
بعثة الأمم المتحدة في ليبيا كانت قد أعربت في تقريرها الأخير عن”قلقها العميق إزاء بعض الأحداث التي حصلت موخراً، وتضمنت الهجوم على موسسات إعلامية وتوجيه تهديدات لصحفيين وأعمال عنف استهدفت كنيسة قبطية ودور عبادة أخرى، والتي تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان الأساسية، خاصة حرية المعتقد وحرية التعبير”.
ممثل الأمم المتحدة الخاص في ليبيا طارق متري علق في حديث لمراسلون على هذا الواقع بتأكيده ضرورة أن تكون “القيم الكونية” كما وصفها “كالتسامح والاعتدال واحترام الاختلاف أساساً بناء ليبيا الجديدة”.
اعتداء من مجهولين
إلا أن احترام هذه القيم يبدو أبعد من أن يتحقق قريباً في ليبيا، التي شهدت إحدى قنواتها التلفزيونية التي تحظى بمشاهدة واسعة وهي قناة العاصمة، ومن قبلها قناة ليبيا الحرة، لهجوم من مسلحين خارجين عن شرعية الدولة في السابع من مارس/ آذار، أدى إلى خطف رئيس قناة العاصمة ومديرها التنفيذي وبعض العاملين فيها قبل أن يتم إطلاق سراحهم، وتعرض المبنى للتخريب والنهب، في حدث لقي استنكاراً رسمياً وشعبياً واسعاً.
هذا الاعتداء الذي سبقته اعتداءات مشابهة، دفع أغلب الصحف اليومية الحكومية والخاصة للاحتجاب عن الصدور في يوم 12 مارس 2012، تعبيراً عن الاحتجاج على هذا التقييد لإعلام وما وصفوه بـ “تكميم الأفواه”.
وقد صوحب هذا الاحتجاب بوقفة احتجاجية في ميدان الشهداء شارك فيها رؤساء تحرير ومسؤولون في مؤسسة دعم وتشجيع الصحافة ومثقفون، حيث تلى المحتجون بياناً عبروا فيه عن رفضهم لـ”الزج بالإعلاميين في الصراع السياسي” واتخاذ ذلك ذريعة لإسكات الكلمة “بقوة السلاح” بحسب ما ورد في البيان.
بيان غاضب
رغم هذا كله، لم يخرج من دار الإفتاء بيان يشجب هذه الاعتداءات، حيث أن الدار تتبنى موقفاً مغايراً عبرت عنه في بيانها الذي صدر يوم 27 فبراير/ شباط معنوناً بـ” هذه الحرية فأين حدود الله”، وصفت فيه الحريات في ليبيا بـ”المنفلتة”.
وقد هاجم بيان المفتي قناة الدولية الفضائية المحسوبة على قوى التحالف الوطني التي يتزعمها الدكتور محمود جبريل، واتهمها بما وصفه بـ”الترويج” للمذهب “الشيعي الرافضي الملحد” على حد قوله، وذلك على خلفية عرض القناة محاضرة بعنوان “ليبيا بين جنون القذافي وعقل الثورة” للدكتور عدنان ابراهيم الذي عده المفتي مروجاً للمذهب الشيعي “الملحد”، رغم نفي الدكتور عدنان أكثر من مرة انتماءه لهذا المذهب، ورغم أن المحاضرة المذكورة لا تتطرق لأصول المذهب الشيعي من قريب ولا من بعيد.
يقول رضا فحيل البوم مقدم البرامج في قناة الدولية أنه شخصياً وزملاء له من طاقم القناة تعرضوا للتهديد بالاعتداء بعد هذا البيان، واعتبروه تحريضاً على إيذائهم.
كلمات كالصاعقة
وقد أصدرت القناة بياناً ردت فيه على هجوم المفتي افتتحته بالقول “تلقينا ببالغ الأسى بيان سيادة المفتي، ونزلت علينا كلماته نزول الصاعقة”، وتساءلت الدولية في بيانها “ألا يعلم سيادة المفتي أن بين التكفير والقتل خطوة، وأن من كفرك هو يعطي رخصة بقتلك، فهل سيتحمل المفتي مسؤولية كلامه؟”.
وطالبته بتوضيح علني وصريح لأسباب اتهاماته، مؤكدة أنها ليست بصدد الدفاع عن عدنان إبراهيم رغم استنكارها لما وصفته “الحكم على الناس بالظواهر”.
ويوضح البيان أن “المزعج” في كلام المفتي “هو ربط الممارسات السيئة بالحرية، وكأن الحرية التي استشهد من أجلها عشرات الآلاف هي خطر يجب أن نحذر منه، والأغرب والأخطر في نفس الوقت أن يربط كل ذلك بالدين”.
وختمت ردها بالقول “إن الحرية منظومة واحدة لا تتجزأ، وإذا تجزأت فإنها تفقد قيمتها، فلماذا يستأثر المفتي وحده بالحرية في تصنيف الأشخاص وحتى تكفيرهم”، واستنكرت ما وصفته “ازدواجية المعايير” في الحكم على الأمور خاصة وأنها تأتي من “رأس السلطة الدينية”.
مخالفة المفتي
يقول فحيل البوم في حديثه لمراسلون أن السبب وراء هذا الهجوم على القناة يرجع إلى استضافتها لبعض الضيوف الذين ربما لا ينسجم فكرهم مع رأي دار الإفتاء، ويسوق مثالاً على ذلك حلقة بثت مع الدكتور نوري بريون الخبير الاقتصادي حول موضوع نظام الصيرفة الإسلامية الذي أقره المؤتمر الوطني العام مؤخراً.
والتي قال فيها إن “سعر التكلفة في المصرف ليس ربا، وأنه من الأفضل أن تكون الفائدة ظاهرة بشفافية كما هى فى المصارف التقليدية وليست خفية كما هى فى المصارف الاسلامية ” وهو ما يناقض رأي دار الإفتاء في هذا الموضوع.
فضلاً عن مواضيع أخرى ناقشتها القناة من بينها فرض الحجاب في ليبيا مع المحامية آمال بو قعيقيص التي تدافع عن غير المحجبات، وكذلك قانون إنشاء دار الإفتاء الذي طعن ضيف القناة محمد التومي في دستوريته ضمن حلقة بثت معه على الهواء يوم 23 فبراير/ شباط، وانتقد فيها أيضاً أحد بيانات المفتي التي شبهت احتفالات الليبيين بذكرى الثورة في شوارع بعض المدن بأنها تحولت إلى “ملاهي ليلية، عزف ورقص، رجال ونساء على الطريقة الغربية”.
مخاض هوية
من جانبه اعتبر الصحفي السابق بشبكة الجزيرة إسماعيل القريتلي أن من حق المفتى متى رأى في الإعلام ما يخالف المنظومة الأخلاقية والقيمية المتمثلة في الإسلام الذي رضيه المجتمع كله مرجعية ومصدرا للتشريع أن يصف هذا الإعلام “بالمنفلت .”
القريتلي أضاف” أنا لا أراه منفلتا فحسب (الإعلام) بل أراه منحرفا. إعلامنا يفتقر إلى التقيد بقيود المهنة وأخلاقها وتنقصه الموضوعية والحياد، وإن فتنة كالتي أدت إلى الهجوم على مدينة بني وليد لم تكن لتحصل لولا التحريض الإعلامي الذي شكل ضغطا على المؤتمر الوطني”.
وأعرب عن تأييده أن تقوم الدولة بمنع الانحراف وتصحيحه متى حصل وأن يكون هذا المنع مستندا إلى أخلاقيات المهنة وضوابطها.
في حين رأى الكاتب فتحي بن عيسى في تصريح لمراسلون أن مفهوم حرية التعبير “ملتبس لدى المتعاطين بالشأن العام”، وذلك بحسب بن عيسى” أمر مرتبط بالثقافة والمزاج العام للمجتمع، وتعبير عن التباين الثقافي والفكري “.
بن عيسى أوضح” نلاحظ هذا اللبس في مصر متمثلاً في محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي بل وصف الإعلاميين بأنهم سحرة فرعون، وكذلك الحال في تونس، وبالتالي فليبيا ليست بدعا من القول. هذه المجتمعات تخوض الآن مخاض هوية وكل فريق يريد فرض رؤيته لشكل الدولة مهما كانت النتائج فضلا عن أزمة الثقة التي يعيشها الجميع … الطريق طويل ومحفوف بالمخاطر”.