يحكم تونس في هذه المرحلة الانتقالية تحالف من ثلاثة أحزاب هي حركة النهضة الإسلامية وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وذلك بعد خلفية فوزها بالمراتب الأولى في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (23 /10/2011). وتعهدت بقيادة المرحلة الانتقالية على قاعدة برنامج حكومي، قُدّم جزءه الأول نهاية ديسمبر/كانون أول 2011 والثاني في مارس/ آذار 2012، أولوياته اقتصادية واجتماعية.
يحكم تونس في هذه المرحلة الانتقالية تحالف من ثلاثة أحزاب هي حركة النهضة الإسلامية وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وذلك بعد خلفية فوزها بالمراتب الأولى في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (23 /10/2011). وتعهدت بقيادة المرحلة الانتقالية على قاعدة برنامج حكومي، قُدّم جزءه الأول نهاية ديسمبر/كانون أول 2011 والثاني في مارس/ آذار 2012، أولوياته اقتصادية واجتماعية.
ولم يكن مطروحاً عند الإعلان رسمياً عن هذا التحالف (الترويكا) أنه تحالف بين “الإسلام المعتدل والعلمانية المعتدلة”. إنما قُدم للتونسيين على أنه تحالف بين “القوى التي ساهمت في الثورة ومهدت طريق النضال ضد الاستبداد.”
التوصيف الإيديولوجي للترويكا لم يبرز إلا في بعض التصريحات الصحافية لوسائل إعلام أجنبية (غربية خاصة) من قبل قيادات الأحزاب الثلاثة، وعلى وجه الخصوص تصريحات السيد راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الاسلامية، الذي اعتبر في أكثر من مناسبة أن تونس تقدم أنموذجاً جديداً في تجربة الحكم يقوم لأول مرة في تاريخ تونس على التحالف بين التيارين الإسلامي والعلماني.
ما هو مصير الترويكا؟
وأمام هذا التوصيف الإيديولوجي لتحالف الترويكا لم يعد تقييم تجربة الحكم في تونس واستقراء مستقبلها، يقوم فقط على قدرة هذه الأحزاب على إنجاز أهداف الثورة والخروج بنجاح من المرحلة الانتقالية بتشعباتها الاقتصادية والاجتماعية، إنما أصبح أيضاً يقوم على مدى صمود هذا التحالف في وجه الاختلافات العميقة بين التيارين الإسلامي والعلماني.
والسؤال الذي يطرحه اليوم عدد من المراقبين والمهتمين بالشأن السياسي في تونس: ما مصير مستقبل للتحالف بين التيارين العلماني والإسلامي؟ ويستمد هذا السؤال شرعيته، (فضلاً عن التباين بين مرجعيات كل تيار)، مما برز من تباينات خلال النقاش داخل المجلس الوطني التأسيسي حول التنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع وحول حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، وأيضاً حول مبادئ حقوق الإنسان.
خلاف إيديولوجي تاريخي
تاريخياً كانت العلاقة بين التيارين العلماني والإسلامي في تونس، علاقة تنافر منذ تأسيس دولة الاستقلال بقيادة الحبيب بورقيبة (أول رئيس لتونس) المحسوب على التيار العلماني والحداثي.
واعتبر الإسلاميون أن العلمانيين هم سبب “التغريب” (التوجه الغربي) الذي عاشته تونس، وأن العلمانيين هم من يقف وراء “استهداف الهوية العربية الإسلامية” لتونس من خلال الخيارات التعليمية والثقافية التي انتهجتها السياسة العامة للدولة. ويُسجل أي التقاء حقيقي بين التيارين إلا في مناسبات محدودة جداً لاعتبارات سياسية بحتة (بداية الثمانينات خلال تولي السيد محمد مزالي رئاسة الحكومة).
الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي حاول في بداية فترة حكمه مهادنة الإسلاميين، فأطلق سراحهم من سجون بورقيبة. حينها أطلق راشد الغنوشي تصريحات متفائلة، بحيث قال: “أنا على قناعة تامة أن النهج الذي يسير عليه بن علي سيعيد تونس إلى محيطها الإسلامي والعربي وإلى مكانتها في المغرب العربي الكبير، وسيُنهي إلى الأبد عهود التغريب والاقتلاع ومسح الهوية الوطنية والحضارية”. كما صرح الغنوشي حينها لمجلة المجلة اللندنية: “حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة حالياً) تعتبر نفسها مجندة للمساهمة الفعالة في دفع التغيير.”
ورغم ذلك فإن العلاقة عادت إلى نقطة الصفر مع بداية التسعينات. ووصفت حركة النهضة والحملة ضد الإسلاميين، وقتها، بأنها خطة لـ”تجفيف المنابع وضرب الإسلام في تونس”. واتهمت العلمانيين واليساريين بوضع هذه الخطة لاستئصال الاسلاميين، واعتبرت أن سيطرة العلمانيين على مفاصل الدولة والأجهزة الأمنية في فترة حكم بن علي كان الهدف منها “مسح العربية والإسلامية لتونس”.
لكن ومنذ أواسط التسعينيات بدأت تتضح الأمور في اتجاه آخر، إذ شنت السلطات حملة أمنية ضد الإسلاميين كانت مقدمة لضرب كل نفس معارض جدي في تونس، فشملت الاعتقالات الأحزاب اليسارية والناشطين القوميين واليساريين وغيرهم. وتم التضييق على الجمعيات الحقوقية الناشطة وعلى الإعلام، مما جعل المشهد العام في تونس قائماً على قاعدة مواجهة الاستبداد الذي لا يفرق بين إسلامي وعلماني.
بعد أن سلط بن علي قبضته الحديدية على الجميع قلّ الحديث عن استئصال التيار الإسلامي لحساب “التغريب” مقارنة مع هيمنة الاستبداد في تونس. ويُلاحظ هذا الأمر في أدبيات الحركة الإسلامية واليسارية في تونس وأيضاً في النقاشات داخل السجون بين العلمانيين اليساريين والإسلاميين، وهي النقاشات التي وضعت اللبنات الأولى للالتقاء بين العلمانيين (في المعارضة) وبين الإسلاميين في مواجهة الاستبداد.
تحالف القوى الإسلامية والعلمانية
وتُوج هذا الالتقاء بإضراب جماعي عن الطعام في أكتوبر 2005، شارك فيه الإسلاميون واليساريون والقوميون جنباً إلى جنب. وأفرز التحرك هيئة 18 أكتوبر للحريات، التي تعتبر تحالفاً سياسياً بين العلمانيين والإسلاميين. وشملت أرضية التحالف الحريات العامة والفردية وحرية الإعلام وحق التنظيم مدنية الدولة وحقوق المرأة، مما جعل هذه الهيئة أنموذجاً حقيقياً للتحالف بين التيارين الإسلامي والعلماني.
لم تعمر هذه التجربة طويلاً فقد شقتها الخلافات الداخلية مطلع عام 2009، وبقيت مجرد إطار تعمل الأطراف على تفعيله وإحيائه في كل مناسبة، إلى أن أطاحت ثورة 14 يناير/كانون ثان بنظام زين العابدين بن علي، بحيث يمكن القول إن الثورة كانت المحك الحقيقي لمتانة تحالف 18 أكتوبر، فقد كشفت كافة الأحزاب عن برامجها وظهر التباين من جديد بين الإسلاميين والعلمانيين في القضايا الأساسية حول مدنية الدولة وحقوق المرأة ومبادئ حقوق الانسان.
ورغم رسائل الطمأنة التي أرسلتها حركة النهضة الإسلامية، فإن تصريحات بعض قيادييها كانت تبرز هذا التباين وتدق مسامير إضافية في نعش تجربة التحالف بين التيارين الإسلامي والعلماني.
بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 وما أفرزته من نتائج لا تمنح لأي طرف أغلبية مطلقة رغم ما حصلت عليه النهضة الإسلامية من أغلبية في الأصوات، برز التحالف بين أحزاب النهضة والمؤتمر والتكتل (الترويكا) كتحالف داخل المجلس الوطني التأسيسي ليحصل على أغلبية تمكّنه من الانتقال إلى تحالف حاكم يقود المرحلة الانتقالية من خلال اقتسام الرئاسات الثلاث: المجلس الوطني التأسيسي والحكومة والجمهورية.
وقد ردت قيادات هذه الأحزاب على كافة الانتقادات التي وُجهت لهذا التحالف من ناحية هشاشته وعدم قدرته على الصمود، بكونه “تحالف استراتيجي ومصلحة تونس في استمرار هذا التحالف الذي يقدم للعالم أنموذجاً جديداً في التعايش والتحالف بين تيارين كان التنافر بينهما هو السمة الرئيسة .”
كان هذا الخطاب موجهاً أساساً للخارج وللأمريكيين والأوروبيين الذين يتابعون بحذر صعود الإسلام السياسي إلى السلطة، ولم يكن موجهاً إلى التونسيين الذين كان اهتمامهم أساساً منصب على الاستقرار الأمني والاجتماعي وتنشيط الدورة الاقتصادية والحد من البطالة.
ترويكا هشة
اليوم وبعد نحو عام على نشأة المجلس الوطني التأسيسي وإعلان التحالف العلماني الإسلامي لقيادة المرحلة الانتقالية في تونس، لا تبدو العلاقة بين أطراف هذا التحالف على أحسن ما يرام. وقد برزت الاختلافات التي لم يعد بالإمكان إخفاؤها بالتصريحات الصحفية المطمئنة أو بالتأكيد على أن هذا التحالف استراتيجي. فالجدل حول توطئة الدستور الجديد وبعض فصوله، مثل تطبيق الشريعة والمساواة بين المرأة والرجل، أعادت كل طرف إلى مربعه الأول ومرجعياته.
وقد دفع هذا الوضع حزبي المؤتمر والتكتل للتأكيد في أكثر من مناسبة أن تحالفهما مع حركة النهضة الإسلامية لا يشمل إعداد الدستور الجديد وبنوده؛ أي أنه تحالف لا يشمل المرجعيات الفكرية، وهو ما اعتبره عدد من المراقبين بمثابة الضربة القاسمة للتوصيف الإيديولوجي لتحالف الترويكا.
هذا إلى جانب أن حزبي المؤتمر والتكتل حرصا في أكثر من مناسبة على التباين عن حركة النهضة في عدد من الملفات السياسية، بل اتهما حركة النهضة بالتغول ومحاولة السيطرة على مفاصل الدولة. وتحول خطابهما في الفترة الأخيرة إلى خطاب أقرب إلى خطاب المعارضة. مما أثار العديد من الشكوك لدى هذه الحركة التي انطلقت في البحث عن تحالفات جديدة تحت عناوين مختلفة.
يمكن استنتاج أن التحالف الثلاثي الحاكم لن يستمر بعد الانتخابات المقبلة وأن توصيفه بالتحالف بين الإسلاميين والعلمانيين هو توصيف للتسويق الخارجي أكثر منه تعبير عن واقع حقيقي، لأن التحالف بين هذه الأحزاب هو تحالف انتخابي داخل المجلس الوطني التأسيسي وتحالف سياسي لتقاسم إدارة المرحلة الانتقالية التي تمر بها تونس.