لم تستطع المواطنة التونسية نجيبة (46 سنة) شراء محفظة مدرسية جديدة لابنها خلال العودة المدرسية الحالية بسبب غلاء أسعارها رغم أنها كانت تمني نفسها لشراء محفظة مستوردة كي تتحمل ثقل الأدوات المدرسية لأن أغلب السلع الأخرى لا تقاوم طويلا.

عند جولانها بالأسواق قبل أسابيع من العودة المدرسية عثرت على محفظة تفي بالغرض سعرها كان في حدود 94 دينارا (40 دولار) لكنها قفزت مع حلول العودة في سبتمبر/أيلول الماضي إلى أكثر من 110 دينار (نحو 50 دولار) أي بزيادة قدرها عشرة بالمائة.

ويعود هذا بالأساس إلى استمرار انخفاض قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية الأخرى. ويساوي حاليا الأورو الواحد نحو 3 دنانير، فيما يساوي الدولار نحو 2.5 دنانير.

الغلاء يسحق الجميع

وتعمل نجيبة كعون تنظيف بإحدى الشركات الخاصة منذ 20 سنة براتب شهري قدره 550 دينارا (226 دولار) لكن هذا الراتب لا يكفي لتلبية حاجيات بيتها ونفقات دراسة ابنها.

تقول لمراسلون “لم أستطع توفير مصاريف العودة المدرسية لابني الذي يدرس في السنة الخامسة من التعليم الابتدائي وحتى المحفظة القديمة لم أستطع التخلص منها رغم حالتها المزرية واضطررت لإعادة خياطتها وترقيعها”.

من جهته يعيش المواطن التونسي الناصر (59 سنة) وهو أستاذ جامعي متزوج وله ابنان وقاطن وسط العاصمة وضعا اجتماعيا صعبا بسبب تدهور مقدرته الشرائية.

وأصبح هذا الرجل يشعر بوطأة الغلاء المتزايد عندما لا يستطيع شراء ما كان اشتريه سابقا. يقول “في السابق كنت أذهب إلى السوق مرة في الأسبوع لأشتري ما يكفي حاجيات البيت من لحوم وخضر وغلال طيلة أسبوع كامل إلا أني الآن لا يمكنني تأمينها ذلك”.

ونظرا للضغط الكبير للمصاريف أصبح الناصر يقسط مشترياته ولم يعد يطمح لشراء سلع بنفس الجودة التي كان يشتريها من قبل لأن سعرها ارتفع للغاية، وفق قوله.

ويعتبر الناصر من الطبقة الوسطى المثقفة التي تطالع يوميا عددا من الصحف والمجلات والكتب، لكن مع تراجع مقدرته الشرائية لم يعد يستطيع شراء أكثر من صحيفة واحدة في اليوم أما الكتب فقد أصبح شراءها “مسألة مناسباتية”.

وتعيش تونس في السنوات الأخيرة أزمة اقتصادية ساهمت فيها التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد إثر ثورة 14 جانفي/يناير 2011، وانعكست آثارها بالأساس على الطبقات المتوسطة وضعيفة الدخل التي أصبحت في هذه السنوات رهينة غلاء الأسعار.

وتواصل تدهور المقدرة الشرائية في تونس في ظل اختلال التوازن القائم بين قيمة الأجور والأسعار إضافة إلى ضعف الإنتاج الوطني الذي أصبح لا يلبي احتياجات المواطن من حيث الكم والكيف الشيء الذي دفع الدولة إلى توريد المزيد من المواد بمختلف أنواعها لكن بأسعار أغلى.

وتبعا لذلك ارتفع العجز التجاري التونسي خلال الأشهر السبع الأولى من العام الجاري 2017 إلى نحو 3.7 مليار دولار مقابل 2.8 مليار دولار خلال نفس الفترة من سنة 2016، وذلك حسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة رسمية).

وقد ارتفعت واردات البلاد خلال الاشهر السبع الأولى من 2017، وفق نفس البيانات، بنسبة 18,8 بالمائة مقارنة بنفس الفترة من سنة 2016 لينخفض احتياطي البلاد من العملة الصعبة ويتعرض الدينار التونسي إلى أزمة جعلت قيمته تتدهور بشكل كبير أمام الأورو والدولار.

انخفاض قيمة الدينار

ويقول الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي لدى الاتحاد العام لتونسي للشغل كريم الطرابلسي لمراسلون إن “قيمة العملات الأجنبية ترتفع بشكل كبير خصوصا في ظل الطلب المتزايد عليها”.

وبين أن من أسباب تدهور الدينار أمام العملات الأجنبية (أساسا الأورو والدولار) تعود إلى تراجع عائدات السياحة وكلذلك انخفاض الصادرات التونسية الذي تسبب في تقلص مخزون البنك المركزي التونسي من العملة الصعبة.

وقد أدى ذلك التراجع إلى ارتفاع التداين العمومي منذ سنة 2010 الشيء الذي جعل خدمة الدين تتزايد لأن خلاصها يكون سواء بالأورو أو الدولار، إضافة إلى أسباب أخرى أضعفت قيمة الدينار مثل التهريب وتبييض الأموال من خلال بارونات المال التي تخزن العملة أو تقوم بتهريبها إلى الخارج.

وبين الطرابلسي أن انخفاض قيمة الدينار يساهم بشكل رئيسي في ارتفاع الأسعار وفي التضخم المالي، إذ تبين آخر التحاليل الاقتصادية أن 30 بالمائة من ارتفاع التضخم وتراجع القوة الشرائية مرده انهيار قيمة الدينار وهو ما يدل على أهمية هذا العنصر على الاقتصاد التونسي وعلى المواطن بصفة عامة على حد تعبيره.

ويعتمد البنك المركزي التونسي سياسات حمائية من شأنها تخفيض نسق تدهور قيمة الدينار، إلا أن التوريد العشوائي ساهم بدوره في خفض قيمة الدينار وذلك من خلال اتفاقيات تبادل تجاري مع بعض الدول يوصي العديد من الخبراء الاقتصاديين بمراجعتها من أجل الاحتفاظ بمخزون الدولة من العملة الصعبة.

ودعا الخبير الاقتصادي كريم الطرابلسي البنك المركزي التونسي إلى إرسال رسائل متفائلة للمستثمرين لأن تأثير العامل السايكولوجي على الفاعلين الاقتصاديين له دور هام في استرداد الدينار التونسي للبعض من عافيته.

ويقول “من سيكون على علم بأن الدينار التونسي سيواصل تدحرجه لن يستثمر بالعملة الصعبة وسينتظر حتى يبلغ الدينار أقصى انحداره كي يجني ربحا أكبر”.

ومن بين الحلول التي يعتبرها هذا الخبير ضرورية لإنعاش الدينار التونسي هي محاربة التهريب والتجارة الموازية التي تنخر الاقتصاد التونسي بشكل كبير.