المتتبع لكثير من التغطيات الإعلامية التي مهدت أو تابعت ما سمي بانتفاضة 15 أكتوبر/تشرين أول (مظاهرة مسلحة خرجت في بنغازي لدعم عملية الكرامة بقيادة اللواء خليفة حفتر)، سيشفق كثيراً على المواطن الليبي المستهدف من هذه المتابعات، والذي لا يجد قناة واحدة رسمية تشفي غليله وتساهم في إعطائه المعلومة الصحيحة بموضوعية ومهنية.

فمع غياب الدولة ومؤسساتها وانقسام شرعيتها غاب الخطاب الإعلامي الرسمي الذي يمكن التعويل عليه إلى حد ما في تحديد مسؤولية ما يبث من معلومات .

المتتبع لكثير من التغطيات الإعلامية التي مهدت أو تابعت ما سمي بانتفاضة 15 أكتوبر/تشرين أول (مظاهرة مسلحة خرجت في بنغازي لدعم عملية الكرامة بقيادة اللواء خليفة حفتر)، سيشفق كثيراً على المواطن الليبي المستهدف من هذه المتابعات، والذي لا يجد قناة واحدة رسمية تشفي غليله وتساهم في إعطائه المعلومة الصحيحة بموضوعية ومهنية.

فمع غياب الدولة ومؤسساتها وانقسام شرعيتها غاب الخطاب الإعلامي الرسمي الذي يمكن التعويل عليه إلى حد ما في تحديد مسؤولية ما يبث من معلومات .

مقذوفات إعلامية

لم تتوقف المقذوفات الإعلامية على المواطن الليبي قبل وأثناء أحداث 15 أكتوبر، كل مقذوف يعبر عن وجهة ساعد قاذفه، وبين سندان مقذوفات المدافع ومطرقة مقذوفات الوسائل الإعلامية غابت الرؤية الحقيقية عن المواطن الليبي وضاعت البوصلة وشاعت الأكاذيب.

“قنوات الدولة” كانت مغلقة، وفاتتها تغطية حدث فارق كهذا يحمل توقيع الانتفاضة المسلحة، وسط حضور مرتبك مشبوه بالأجندات الخاصة لوسائل إعلامية ممولة من جهات متباينة في الداخل والخارج.

مع مرور كل ساعة يتصاعد دخان المعارك في بنغازي فتحجب الرؤية، وتتعاظم أصوات التفجيرات حتى تكاد تصم الأذان، ويركض المواطن للبحث عن بصيص ضوء في النفق المظلم، فلا يجد سوى العتمة الممنهجة التي تزيد من قتامة الأفق.

تضارب وفبركة

تضارب المعلومات لم يكن السمة الوحيدة لتغطيات ذلك اليوم، بل والتهويل والتركيز على أمور معينة دون سواها بهدف تغليب حقائق على أخرى، فمثلاً ركزت القنوات المؤيدة لعملية الكرامة على تصريح الرائد محمد الحجازي المتحدث الرسمي باسم العملية العسكرية التي يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بأن قواته تسيطر على أكثر من ثمانين في المئة من مدينة بنغازي، وأن هذه القوات قد سيطرت بالكامل على معسكر 17 فبراير الذي تتمركز فيه قوى إسلامية متشددة منذ بداية أحداث فبراير/شباط.

في المقابل امتلأت الصفحات التي تنطق باسم مجلس ثوار بنغازي “الدروع وأنصار الشريعة”، بتصريحات يزعمون فيها بأن الطائرات التي تقصف المعسكرات التي تتمركز فيها قواتهم مصرية  وإماراتية، دون وجود أية أدلة على هذه المعلومات.

بل وصل الأمر لحد الفبركة، كما حدث مع شريط الفيديو الذي ظهر فيه مسلحون تابعون لعملية الكرامة في أحد المعسكرات التي زعموا أنها لخصومهم الإسلاميين المتشددين، ليثبت لاحقاً أن الفيديو الذي انتشر بشكل كبير على الانترنت كان مجرد كذبة.

مئات الأخبار وعشرات التصريحات ومثلها من التقارير حاصرت المواطنين بكم هائل من المعلومات المغلوطة عن حقيقة ما يجري على الأرض، منذ مطلع الفجر وحتى ساعات متأخرة من الليل.

ومع اعترافنا بصعوبة التغطيات المباشرة من قلب الأحداث للخطورة المحدقة التي ستكون في انتظار من يقدم على ذلك، إلا أن الأطراف الإعلامية التي تمكنت بحكم ارتباطاتها وتوافقاتها مع الجهات المسلحة المتصارعة من مواكبة الأحداث من عين المكان، لم تكن أمينة مهنياً في نقل الحقائق بموضوعية وحيادية.

إعلام مسيس

وقد ساهمت هذه الفوضى بشكل سلبي في تشكيل مواقف الناس حيال الأحداث الجسيمة التي تمر بها بلادهم، ففي خضم هذه التطورات المتلاحقة للأوضاع في ليبيا على مدى أربع سنوات، تسرب المال السياسي لوسائل الإعلام، وتسلل الخطاب العقائدي، ووجدت الرسائل التحريضية نوافذ مشرعة لها .

فالليبراليون أنشأوا قنوات صارت تتلون بألوانهم، والإسلاميون أسسوا هم أيضاً قنواتهم التي صارت تنطق بلسانهم، ولم يتغيب عن المشهد رجال الأعمال ومصالحهم وأجنداتهم.

عشرات القنوات والصحف انطلقت دون أن يشغل الليبيون في البداية أنفسهم بمعرفة من ورائها أو من يمولها، فقد كان الوجدان الليبي المحتفي بالثورة يفترض حسن النية في جميع الوسائل الإعلامية ويراها وسائل ثورية بامتياز، سواء تلك التي تبث من داخل الوطن أم من خارجه.

إلا أن حالة التصالح هذه لم تدم طويلاً وسرعان ما انتقل الوجدان الليبي من حالة الانبهار إلى حالة الانتقاد اللاذع وتجاوز مرحلة الرضى والاستحسان إلى مرحلة الغضب وأحياناً الهجوم الحاد.

تراكم سلبي

لم تستطع تلك الوسائل الإعلامية على اختلاف مشاربها أن تؤسس لخطاب إعلامي مهني يرقى بالذائقة التفاعلية مع الوسيلة الإعلامية، وينمي مهارة الحوار ويذكي ثقافة الاختلاف واحترام الخصوم.

بل على العكس من ذلك روج كثير من تلك الوسائل ثقافة الاتهام دون أدلة وإذكاء الصراعات وبث الفتن والانحياز لوجهات نظر معينة والاستماتة في الدفاع عنها ولو أدى ذلك إلى سقوط العملية الإعلامية النزيهة والموضوعية برمتها.

هذا التراكم السلبي من الممارسات الإعلامية غير المهنية، أدى إلى تجذير حالة من الفوضى الإعلامية المتماهية مع الفوضى السياسية والعسكرية التي تمر بها ليبيا، وساهم في مجانية تداول المعلومة وعدم الشعور بالمسؤولية حيال ما يبث من رسائل إعلامية .

وتبرز هذه الحالة السلبية للمشهد الإعلامي في ليبيا عند تعاطي الإعلام مع الأحداث المهمة التي تتعرض لها البلاد والبروز المروع للتناول المرتبك للحدث وفقدانه لأدنى درجات المهنية والمسؤولية الذاتية، التي تتوافق مع المبادرة الأخلاقية الصحافية التي بات العالم يعول عليها كثيراً في تطوير الخطاب الإعلامي، كون هذه المبادرات الأخلاقية أكثر نجاعةً من القوانين والمواثيق في الارتقاء بالممارسة الإعلامية على اختلاف أوجهها.

وبالتالي كان لها الأثر السلبي على الوجدان الليبي المتلقي لهذه الرسائل الإعلامية التي تعي أو لا تعي أنها تساهم في تجريف هذا الوجدان وتربك رؤيته في التعاطي مع الأحداث وتخلق حالة من الإحباط لدى قطاعات واسعة من الناس.

وربما هذا ما حدث في نهاية تغطيات 15 أكتوبر، والذي يمكن رصده بسهولة من خلال تفاعل المواطنين الليبيين مع صفحات التواصل الاجتماعي، التي عكست بجلاء حالة الإحباط والتذمر من التغطيات الإعلامية التي شعروا أنها مارست قدراً كبيراً من التضليل حيالهم.