تعبر بوابة باللون الأسود بعد مسافة سفر طويلة، ارهقتك بدنيًا و ذهنياً، رحلة تجعلك تشعر أن بصرك قد خانك، حين تري الضباب الأبيض يحاصرك من اليمين واليسار، تتخلله زرقة السماء و الشمس الرابضة بين أضلاعها، ترسل ضوءًا مكتومًا، وحرارة قد لا تشعر بها من فرط إحساس البرودة الكاذبة الذي يصل إليك بفعل اللون الابيض “لون الثلج”، فيهيأ إليك أنك قد سافرت إلى مدينة بعيدة مغطاة بالثلوج، ذات طقس دائم الضباب، ولكنك تلتفت مرة أخري وراءك لتتأكد مما رأيته على هذه البوابة، فيسطع لك من بين هذا الضباب اسم “المنيا” عروس الوجة القبلي، وقبلة كل تجار الطوب الابيض لكونها الحاضنة الأم لمحاجر الطوب الأبيض بالجمهورية.

 

الوضع منذ هذه اللحظة مختلف تماماً، تشعر وكأنك في موقع تصوير سينمائي، رجال مقنعون يشبهون الكائنات الفضائية، لا يظهر منهم شئ سوي نظارة سوداء تخترق هذا البياض الشاسع، وتشي بوجود شخص هنا، يحمل بين يديه سلماً يسقطه على مسافات متباعدة وفقاً لحركة إحدى الماكينات التي يكاد صوتها أن يقتلع قلبك من مكانه رعبًا و فزعًا، يرسل إشارات لزميل له فيفهم قصده دون حديث، فيضغط الثاني على مفتاح الماكينة و يستأنف عمله، يبعث بضحكة لا أعلم كيف رآها ثالثهما الذي يعمل على ماكينة أخري بجواره ليقطع هذا المشهد صرخة مدوية من عامل آخر ليحذرني: “حاسب يا أستاذ الماكنة هتقطعك حتتين”، و رأيت ترسًا حديديًا مدببًا بأسفل هذه الماكينة يمر بجوار قدمي يفصلني عنه عدة سنتيمترات، فماذا لو لم اسمع تلك الصرخة المحذرة؟ وماذا سيفعل هؤلاء ممن قد يتعرضوا للحظة سهوًا في أي وقت خلال يوم عملهم؟ و كيف سيكون مصيرهم؟ أسئلة تحتاج لإجابة.

 

هدأ الصوت المزعج و رأيت لونا جديدا برتقاليا يكسر رتابة هذا البياض، صاحبه صوت حامله “الشاي يا رجالة” فعلمت حينها أنه حان وقت  استراحة العمال، بعد انتهائهم من المرحلة الأولى، اللاتي تحتل فيهما مركز البطولة آلتان هما “الفصالة” و”الحشاشة” كما عرفهما الأسطى حسين قائلًا: “المكن اللي تحت ده واحدة اسمها “الفصالة” وواحدة اسمها “الحشاشة”. الأول اللودرات دي بنساوي بيها مرتفعات الجبل، واللودر بيجرف الطروف عشان لازم تبقى مسطحة خالص، بعدين “الفصالة” دي بتقيس مقاس الطوبة في الأرض 20 سم طول في 40 سم عرض، و”الحشاشة” تخرجه في الشكل النهائي اللي إنت شايفه اللي هو 12 ونص سم طول في 25 سم عرض” ، واختتم حديثه ساخراً : “عموما يا بيه دي شغلانة طويلة و صعبة مهما حكيتلك مش هتفهمها”.

 

انتهت الاستراحة القصيرة و عادوا و عدت معهم لاستئناف العمل، و المرحلة الثانية هنا تشبه مرحلة جمع الثمار في مواسم حصاد المزروعات، فيقوم العامل بالتقاط الحجر من علي الأرض الذي تركته له آلة الحشاشة في هدوء تام بحركة منظمة سريعة وكأن جسده استحال إلى آلة موسيقية تعزف سيفونية ما، يده تعمل وفقا للنوتة التي وضعها ليرتفع الحجر و كأنه يعرف مكانه المخصص له دون أن ينظر العامل له أو للمكان المخصص لوضعه، غير آبه بالماكينة التي تمر بجواره فيرتفع بجسده فوق عدد من الأحجار المتراصة بجانب بعضها البعض لثوان معدودة و يستأنف عمله وكأنه يعلم موعد مرورها ويحفظ صوتها عن ظهر قلب، مستنكراً تعبير الصدمة على وجهي خوفا عليه من أذى الماكينة التي كادت أن تودي بحياته أمامي الذي استمر مدة ثوان حتي اكتمال موكب مرورها من الغبار الابيض،  ليظهر هو أمامي  مشيراً باصبعه “كله تمام يا بيه”، لتري في النهاية الطوب المتراص كأنه مجموعة من العمائر في أحد الكمبوندات الشهيرة متساوية المقاسات ومتشابهة المظهر لا يشوب بياضها شائبة.

 

رأيتهم من بعيد يقذفون كرات من الرمال البيضاء علي بعضهم البعض ينقصهم “رجل الثلج” فقط لتشعر و كأنك في عشية عيد الميلاد في إحدى مدن أوروبا.  مجموعة من الأطفال تظهر أعينهم أسفل طبقات من الرمال، يخطون مخلفين آثار أقدامهم في الرمال برهانًا على مرورهم في هذا الميدان، الذي لا يقل هيبة و مشقة عن ميدان الحرب، اقتربت و اقترب مني “نور”، الذي اقتطع من اسمه نصيبًا لا بأس به، نور البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما  هو أحد الاطفال العاملين بهذا المحجر، تقتضي وظيفته التي أطلق عليها الاسطوات “الحمَيل” أن يقوم بحمل الحجارة من على الأرض ووضعها على السيارات الخاصة بالتجار، نور لا يعمل وحده بل برفقة اثنين من اخوته محمد و حسن، سألته عن عمله و اجابني: “يا عم الحجارة دي مش تقيلة زي ما أنت فاكر أنا كنت الأول مبقدرش أشيل طوبة واحدة دلوقتي بشيل بالاتنين والتلاتة على العربية مرة واحدة، و أسطى رضا مبيخلنيش أزود عن كده ليقع مني الطوب ويتكسر، شايف العضلة دي معندكش أنت زيها”، قاطعنا الأسطى رضا لائمًاً إيانا: “يا أساتذه متعطلوناش بالله عليكم ورانا أشغال “، ففهمت أنه لم يعد مرحبا بي في المكان، وأني استنفذت الوقت المخصص لي بصحبتهم.

 

العمل في محاجر الطوب الأبيض بالمنيا ليس سهلًا، والعمال لا يتمتعون بأي حقوق للعمل أو تأمينات صحية أو اجتماعية علي الرغم من المخاطر الجمة التي تحف هذه المهنة، كما يعاني العاملون بها و أصحاب المحاجر من تربص المصالح الحكومية الممثلة في موظفي المحافظة ممن يفرضون عليهم مخالفات غير معقولة قد تصل إلى الملايين، يقول المعلم فادي خلف: ” الفلوس دي الحكومة متعرفش عنها حاجه أنا بدفع في الشهر أكتر من 15 الف جنية مخالفات، و في هنا أكتر من 800 محجر كلهم بيدفعوا نفس المبلغ تقريبا، يعني فلوس بالملايين، و العامل اللي بيروح مني أو بيتصاب أو بيجراله حاجه أنا اللي بتكفل بيه، هي الدولة ليه مش عايزة ترخصلنا بدل ما كل شوية يغرمونا، وشرد قليلاً ثم استأنف ملخصاً حاله و حالهم: “احنا مش بس هنتدفن في التراب، احنا كمان عايشين فيه دلوقتي”.