كان وعيي بقيمة محافظتي الأثرية “محافظة بني سويف” يكاد يكون معدوماً، ربما الوعي الوحيد الذي اكتسبته، لم اكتسبه من وجهته المفترضة “التعليم” بل اكتسبته من المشاهدات، حيث نشأت في قرية يحفر غالبية أهلها تحت بيوتهم لاستخراج الآثار وبيعها والتكسب منها.

كنت في سن مبكرة لم تتخط العشر سنوات حينما كنت أحفر قبراً لقطتي في بيت جدي المهجور، فوجدت دون جهد كبير في الحفرعملات معدنية غريبة. لم تكن هذه العملات من فئة الشلن (الخمسة قروش) والبريزة (العشرة قروش) والربع جنيه المثقوب(خمس وعشرون قرشا) مما أحصل عليه كمصروف، بل عملات قديمة منها ما لمع بمجرد تنظيفه، ومنها ما كان مليئاً بالصدأ، لم أدرك أهمية ما وجدت إلا بعدما رأيت وجه أبي فرحًا بعدما أعطيته العملات وحفر في ذهني هذه الجملة “هذه عملات من أيام محمد علي باشا”.

***

تقول وهيبة صالح المفتشة والخبيرة الأثرية بوزرة الآثار لمراسلون؛ محافظة بني سويف تعتبر على قائمة المحافظات المتخمة بالآثار لأنها كانت عاصمة مصر بين الأسرة التاسعة (2160–2130 قبل الميلاد) و الأسرة العاشرة (2130–2040 قبل الميلاد) وكانت تسمى “هيركليوبوليس” هذه المحافظة الشهيرة بهرم ميدوم تتوسط عواصم مصرية قديمة أيضا محافظة الجيزة الأثرية “منف” ومحافظة الفيوم” بير سيبك- أرض التمساح” لذا فهي تقع ضمن خريطة جغرافية أثرية كبيرة ومتسعة، ومن المتوقع أن بها آثار لحقب تاريخية كثيرة لم يتم اكتشافها بعد.

***

ظننت أن محمد علي باشا هو جدي صاحب البيت الذي وجدت فيه العملات، جدي الذي لم أره قط، كنت حينما أصف اسمي أضع في نهايته محمد علي باشا فيضحك من يسمعني أحكي هكذا بعفوية، حتى علمت في مرحلة لاحقة أن محمد على هو جد أسلام باشا صاحب قريتنا والقرية المجاورة لنا عزبة اسلام باشا، وأن عائلته التي تعيش بالسرايا هم أحفاده ولست أنا، شعرت بخيبة كبيرة أن هذا الرجل الذي حظيت عملاته باهتمام كبير من والدي لا يمت لي بصلة مباشرة.

***

تحكي وهيبة؛ من بني سويف انطلقت الثورة الاجتماعية الأولى في عهد الفراعنة في أعقاب الأسرة السادسة وهي الثورة التي تسمى ب”ثورة الجياع” وانطلقت عام 2280 قبل الميلاد،  وبعدها انهارت مصر وتقسمت ، كانت هذه الثورة بمثابة فترة انتقالية بين الدولة القديمة والدولة الوسطي، ورغم ذلك فالوثائق الحفرية بخصوص هذه المرحلة نادرة بسبب قلة عمليات التنقيب العلمية فضلا عن سرقة الكثير من أثريات هذه المرحلة بسبب الحفر بهدف السرقة.

***

بحسب مقال للدكتور لطيف شاكر “الثورة الاجتماعية الأولى  بدأت بمجموعة من المنشورات والشعارات كانت الاولي من نوعها في العالم القديم ، نص احداها المنقوش على احدي لويحات الاوستراكا ” الارض لمن زرعها والحرفة لمن احترفها وليس للسماء وصاية علي الارض ” ، ونادي الثوار بأنه ليس هناك سيد ومسود, وليس هناك رئيس ومرؤوس , الجميع سواء والجميع احرارا.ليست هناك محاكم أو سجون لأن القوانين والأحكام ضد الحرية وليس هناك تشاريع تقيد الناس بالسماء لأن الاله لا وجود له”.

***

علمت أن اسم قريتي والتى تبعد حوالي عشر دقائق عن مركز المدينة، هو بالأساس يرجع لأصل فرعوني كان لهذه المعلومة وقع خاص أعادني لمنطقة الهوية مرة أخرى، هذه الهوية التي ضاعت مع ضياع نَسَبي لمحمد علي، كانت قريتنا  تسمى في عهد الدولة العثمانية التل الأحمر لأنها كانت مليئة  بالقبور الفرعونية الحمراء، وبنيت فوق هذه القبور قبور أخرى لأجدادنا المحدثين حتى اختفت القبور الحمراء نهائيا، حتى وأن كانت هذه المعلومة غير موثقة لكن جميعنا صدقناها كأن الموضوع بالنسبة لي وغيري على الأغلب من سكان القرية الفقيرة مسألة هوية بشكل ما، كأن نطمئن أن لنا جدودا عظماء ولسنا مجرد سلالة فقيرة من الفلاحين، لكن مع ازدياد الفقر لا أظن أن مسألة الهوية هذه تصمد أمام الذهب.

***

تجدد الحديث عن كنوز القرية حينما كنت في بداية المرحلة الإعدادية، علمنا أن جهة ما جاءت لتزيل قبور الأهالي لأنها فوق قبور، وقرية فرعونية كبيرة، كان أهل البلدة مصدومين حينما أخبرتهم هذه الجهة أن رفات قبور ذويهم سيزال و سيتم التخلص منه، سيوزع على الشوارع والمدارس ليدكوا بها الطرق والمساحات الترابية.

نفذت هذه الجهة مشروعها رغم أنف الأهالي، مازلت أذكر يوم سبت كنت ذاهبة إلى مدرستي فوجدت أرضية الملعب الترابية عالية والتراب مليئ بالعظام البشرية والجماجم كان مشهدا مرعبا، لدرجة أن أمهاتنا جاءت إلى المدرسة، كل أم تحضن ابنها وتحذره ألا يقع على هذا التراب أو ملامسة العظام حتى لا يلبسنا جنّي.

***

اعتبرت وهيبة صالح  أن محافظة بني سويف من أكثر المحافظات التي تضررت بعد الثورة، لأن الشرطة ليست حاضرة فيها بالشكل الكافي بالمقارنة بحضورها في محافظات مركزية كالقاهرة مثلا، مما تسبب في  ازدياد عمليات الحفر بهدف السرقة والتعديات على أراضي زراعية والبناء عليها، رغم أن هذه المساحات من الأراضي احتمالية احتواءها على آثار كبيرة.

لا أعلم هل تضررت محافظتي من نهب الآثار بعد الثورة أم أن الضرر يعود لسنوات طويلة بعمر ذكرياتي بهذه المدينة، فبعد التخلص من مقابر أجدادي المحدثين عاشت قريتي فترة مظلمة بشكل معنوي وفعلي، كانت تأتي أيام تُطفأ الكهرباء تماما عن قريتنا ليلا، ويتم تحذير الأهالي من الخروج من منازلهم، حيث تأتي عربات حديثة بزجاج مظلم إلى منطقة المقابر الحمراء، لا نعلم ماذا يفعلون ولا لماذا يتم حبس الأهالي بهذا الشكل في بيوتهم، ما دامت حملات التنقيب مشروعة! ، كان أقاربي يرددون ” هؤلاء جماعات تسرق الآثار وفي الأغلب تابعة لشخصيات كبيرة في البلد!”.

***

تقول وهيبة؛ بني سويف ليست في بؤرة الضوء بشكل كاف كمدينة أثرية هامة حتى أن الأماكن الأثرية فيها غير مفتوحة للزيارة ولا على خريطة التنشيط السياحي ولا على خريطة التنقيب بشكل أوسع ، هذه المدينة بها أرشيف الثورة المصرية الاجتماعية الكبرى، كما أن بها هرم ميدوم  ثاني أقدم هرم مدرج في العالم والذي بناه “الملك حونى” أخر ملوك الأسرة الثالثة وأتم بناءة أبنه الملك سنفرو أول ملوك الأسرة الرابعة وهو والد الملك خوفو باني الهرم الأكبر بالجيزة.

***

رغم تدرجي في التعليم ودراسة التاريخ كمادة أساسية ألا أنني لم أدرس من التاريخ الفرعوني مثلا سوى ملوكه المشهورين مثل أحمس وأخناتون وخوفو وخفرع ومنقرع، ولم نناقش في المدرسة أهمية آثار هؤلاء الملوك، وهل التنقيب عنها وبيعها أمرًا صائبًا أم لا. حتى انفتح النقاش حينما كنت في الجامعة مع زميلات من قرى أخرى لفتوى الشيخ محمد حسان أن بيع الآثار حلال لأنها مثل كنز الخضر رزق من الله لمن يجدها .

في هذه المرحلة الجامعية كانت لا تزال عمليات الحفر بهدف السرقة  مستمرة، حتى أن الأنفاق كثرت داخل البيوت و باتت تهددها بالسقوط فكثرت أيضا العواميد الخشبية التى يعزز الأهالي بها أسقف منازلهم وتسندها إن أوشك السقف على الانهيار.

***

تقول وهيبة لابد من التأكيد على أن ما يقوم به الأهالي لا يسمي تنقيب بل هو حفر خلسة بعرض السرقة أما التنقيب هو ما تقوم به البعثات الأثرية العلمية ويسمى تنقيب لأن هذه البعثات تعتني حتى بطبقات الأرض التي تحفر فيها، وتعيد هذه الطبقات  إلى موضعها بعد عملية الحفر، تعتني بشكل البيوت والحوائط التي قد تظهر أثناء عملية التنقيب ، كل حجر له أهميته الأثرية أما من يحفروا بهدف السرقة لا يهمهم سوى الذهب والتماثيل والأشياء الثمينة التي يسهل بيعها ويدمرون ما سوى ذلك.

***

كلما كبرت كانت مرحلة الحفر بهدف السرقة تأخذ بعداً خرافياً  فبدأ يظهر في قريتي الشيوخ الذين يتقاضون الأموال مقابل جعل حارس المقبرة ” الثعبان” مُسلمًا مظعنا للأوامر، فبعدما يسلم  ينفك السحر الأسود عن المقابر وبالتالي يسهل على الأهالي سرقة الكنوز، أو أن يطلب الشيخ خاتم ذهبي يلقيه على باب المقبرة كي تُفتح، -وفي الأغلب كان يَسرق الخاتم ويوهم الأهالي برميه- ولم تتوقف عملية الاستعانة بالشيوخ إلا بعد أن بدأ يطلب الشيخ فتاة عذراء يدخل بها النفق المحفور للبحث عن الكنوز وهو ما رفضه الأهالي خوفًا على شرفهم.

خبر متكرر ربما يصلح كخاتمة

بحسب تقرير من شرطة السياحة والآثار ومديرية أمن بني سويف ،نشرته جريدة اليوم السابع فإن شرطة مباحث السياحة والآثار ضبطت خلال يوم واحد في شهر أغسطس الماضي، 4488 قطعة أثرية، بعدما عثر عليهم داخل منزل مواطنين بمحافظة بنى سويف، كان الشابان المقيمان في مركز الواسطى التابع لبني سويف قد حصلا على القطع الأثرية من الحفر ومن الشراء بهدف بيعها ، وكانت هذه المضبوطات  “وجه خشبى لشكل أدمى، ووجه من الطين اللبنى لشكل أدمى، و 3750 قطعة عملة معدنية ذهبية اللون عليها نقوش فرعونية، و730 قطعة معدنية مستطيلة الشكل ذهبية اللون عليها نقوش فرعونية، و 3 تمثال أوشابتى معدنى مذهب مختلف الأحجام عليها نقوش فرعونية، و3 تمثال أوشابتى من الحجر مختلف الأحجام عليها نقوش فرعونية”.

 

 

صورة أرشيفية لعملة مصرية تم سكها سنة (1277ه-1860م) وقت حكم الخديوي محمد سعيد (1854-1863) وسط عملات أخرى تعود للفترة المملوكية

تصوير: سيد داود واراب