يسكن المواطن التونسي الهادي بوسعيدي منذ أكثر من 20 عاما في “الحلفاوين”، أحد الأحياء القديمة بالعاصمة تونس، داخل “وكالة” قديمة لم تشهد ولا مرة واحدة أشغال صيانة منذ أن وضع أقدامه فيها.

و”الوكايل” (جمع وكالة) هي مبان قديمة موجود في الأحياء القديمة بالعاصمة وتتكون من غرف ضيقة يتم تأجيرها على حدة لمجموعة من المواطنين المعدمين ويتقاسمون فيها حنفية الماء وبيت الراحة.

أحدث هذا النمط من السكن عقب الاستقلال بعد أن استقطبت العاصمة التونسية عددا كبيرا من الوافدين من الأرياف والنازحين الباحثين عن الشغل. ورغم تدهور بنيتها لم تشهد “الوكايل” أي صيانة.

حول هذا الوضع المتردي يقول الهادي بوسعيدي لـ”مراسلون” إن “مالك الوكالة لا يهتم إلا بجمع المال ولا يعبأ بمطالب العائلات المقيمة التي طالما طالبته بإصلاح الأسقف المشققة التي تقطر بالماء”.

لكن على الرغم من غياب الصيانة لا أحد من المتساكنين يجرؤ على مغادرة المكان. إذ لا يتعدى ثمن الإيجار الشهري بأحد “الوكايل” 40 دينارا (13 أورو) وهي الأرخص في تونس مقارنة بإيجار الشقق.

فضاء مشترك

تضم “الوكالة” التي يقطن بها الهادي بوسعيدي مجموعة من العائلات الفقيرة التي تجابه العديد من المشاكل الاجتماعية. وعلاوة على ذلك تعاني تلك العائلات البائسة من تدهور ظروف إقامتهم في “الوكالة”.

كغيره من المتساكنين تعود الهادي بوسعيدي على العيش في مثل هذه الظروف القاسية والتي تزداد قساوة في فصل الشتاء بحكم الرطوبة الشديدة وتسرب المياه من شقوق الأسقف والجدران المشققة.

غير بعيد عن هذه البناية توجد “وكالة” أخرى يقال إنه مضى على تشييدها أكثر من قرن وتسمى “الهناء” لكن لا علاقة للاسم بالمكان. هناك يشعر الزائر ما إن تطأ قدميه المكان أنه عاد لزمن غابر.

يوجد ممر طويل في هذه البناية بكاد لا ينتهي. بنهاية هذا الممر الضيق تظهر بيت راحة وحنفية ماء يشترك بها العائلات المقيمة بهذه “الوكالة” التي تعم الرطوبة أرجاءها.

بالكاد يتسلل شعاع الشمس لسكان الطابق السفلي ما جعل الظلام يخيم على المكان في عز النهار.

يبلغ عدد الغرف بهذه البناية نحو خمسين غرفة وتتميز بالضيق الشديد وهي موزعة على طابقين، تحمل أغلبها أرقاما سوداء كتبت بخط اليد لتنظيم عملية التأجير، أما أبوابها فهي من اللوح القديم المهترئ.

ظروف قاسية

تكاد تخلو الغرف من الأثاث عدا العناكب المنتشرة في كل مكان، والتي احتلت أغلب الزوايا والنوافذ الحديدية القريبة من السقف والتي بالكاد تمر منها التهوية.

منذ سنوات عديدة يقيم محمد المحمدي القادم من محافظة فرنانة بالشمال الغربي بهذه “الوكالة”. اضطر بسبب ظروفه القاسية أن يترك زوجته وأولاده للنزوح للعاصمة والعمل في حضائر البناء.

يؤكد هذا الرجل لـ”مراسلون” إنه كان يستيقظ يوميا من الخامسة صباحا للذهاب إلى بيت الراحة لقضاء حاجته قبل غيره “وإلا يتحول الأمر إلى كابوس بسبب طول الانتظار أمام بيت الرحة بسبب الازدحام”.

يروي محمد بكثير من الغبن معاناته خلال فترة إقامته، قائلا “ظروف السكن هنا صعبة إذ يتعين عليّ أن أتحمل الضجيج والصراخ والأوساخ لكني كنت مضطرا لأن راتبي لا يسمح لي بتأجير مسكن لائق”.

ويرى جاره علي بن محمد العبيدي، عامل يومي من منطقة “جومين” بمحافظة بنزرت، والذي كان بصدد ملئ بعض الأكياس لحملها كهدايا لأبنائه بعد طول غياب أن ظروف السكن متردية للغاية داخل “الوكالة”.

لا يستطيع هذا الرجل بدوره تغيير مكان إقامته فراتبه لا يتعدى 500 دينارا في الشهر (230 أورو) يتبخر بسرعة بسبب ارتفاع الأسعار وكثرة المصاريف، بحسب قوله.

ورغم الرطوبة المرتفعة وظروف الإقامة القاسية خصوصا بفصل الشتاء حيث يتسرب الهواء البارد من شقوق الجداران ويتسرب الماء من الأسقف المتشققة، لا يخطط علي بن محمد العبيدي لتغيير ملجئه.

نحو الاندثار

وبقطع النظر عن الظروف القاسية التي يعيشها متساكنو “الوكايل” فإن عددا منها أصبح مهددا بالسقوط.

يؤكد وسام البحري معتمد “باب سويقة” أحد الأحياء القديمة بالعاصمة تونس لـ”مراسلون” أنه تم الخميس الماضي إخلاء “وكالة” آيلة للسقوط لأنها أصبحت تشكل خطرا على حياة الناس، وفق قوله.

امتثل صاحب “الوكالة” لأوامر الإخلاء خاصة لأنه يتحمل المسؤولية القانونية في صورة انهيارها. وقبل أيام انهارت إحدى المباني القديمة بمحافظة سوسة الساحلية (وسط البلاد) مخلفة ستة قتلى.

وتعمل حاليا السلطات على رصد البناءات المتداعية للسقوط بما فيها “الوكايل”. ويفيد وسام البحري أن النية تتجه لإعادة تفعيل برنامج صياة “الوكايل” حتى تتماشى مع أبسط مقومات السكن اللائق.

لكن المؤرخ عبد اللطيف الحناشي يؤكد لـ”مراسلون” بأن “الوكايل” لم تعد تتماشى بتاتا مع نمط السكن الحالي لاسيما مع بروز عقارات جديدة مخصصة للإيجار للطبقات الفقيرة والمتوسطة.

ويقول الحناشي “غالبا ما يكون للوافدين الجدد على العاصمة أقرباء أو أصدقاء يشاركونهم في تأجير شقق بأحياء شعبية وهي صيغ جديدة ظهرت بتونس في الإيجار”.

وحسب تأكيده فإن “الوكايل” تسير بسرعة نحو الاندثار مع انتهاء دورها القديم كملجأ للعمال الوافدين من المدن النائية الباحثين على العمل والاستقرار بالعاصمة.

وبعد الاستقلال كان عدد “الوكايل” في العاصمة التونسية يناهز 600 “وكالة” أوت ما يقارب ثلاثة آلاف عائلة. أما اليوم فلا يتعدى عددها عشرة “وكايل”.