لم يعد العامل اليومي العربي المبروكي (43 سنة) قادرا على مجابهة المصاريف المتزايدة لتغطية نفقات عائلته بسبب ارتفاع المتواصل للأسعار في تونس.

جرب العربي كل المهن البسيطة وفي النهاية استقر به الأمر ليعمل بسوق الأثاث بجهة الملاسين بالعاصمة متنقلا بين المحلات يقضي شأنا لهذا أو لذاك مقابل بضعة دنانير لا تسد إلا النزر القليل من مصاريف عائلته التي باتت كبيرة خاصة مع التحاق أبنائه الثلاثة بالمدرسة.

يقطن عربي وزوجته التي تعمل معينة منزلية في مسكن صغير بجهة سيدي حسين (حي شعبي فقير بضواحي العاصمة) متكون من غرفتين. ورغم أن الايجار لا يتجاوز 100 دولار في الشهر فكثيرا ما وجدت الأسرة نفسها مهددة بالطرد منه بسبب عجزها عن دفع الإيجار.

لا يستطيع عربي كعدد كبير من التونسيين التوجه للبنوك الاقتراض إذ لا يملك دخلا قارا يسمح له بذلك ورغم ذلك تثقل الديون كاهل رب هذه الأسرة.

صبيحة كل يوم يقصد العربي السوق مستعينا بدعوات زوجته سلوى عله يفلح في تحصيل دنانير أكثر بينما تخرج الزوجة إلى سوق الحي لقضاء ما تيسر من الحاجيات.

وإزاء تدهور القدرة الشرائية للتونسيين وانحدار جزء من الطبقة المتوسطة نحو خانة الفقر أصبح التداين بمختلف أشكاله واقعا مفروضا على الأسر التي تجد في الاقتراض المنفذ لسداد حاجياتها.

تؤكد الأرقام الرسمية أن قرابة مليون عائلة تونسية متدانية تداينا مفرطا تجاوز 40 بالمائة من دخلها وهو السقف الأعلى القانوني الذي لا يسمح بتجاوزه عند إسناد القروض سواء من المؤسسات البنكية أو التجارية التي تعتمد البيع بالتقسيط.

وتشير بيانات رسمية نشرها البنك المركزي مؤخرا إلى أن حجم القروض المصرفية المسندة إلى الأسر التونسية تضاعف مرتين خلال 6 سنوات، لتصل إلى 20.8 مليار دينار (7.4 مليار أورو) في مارس/ آذار 2017، مقابل 10.7 مليارات دينار (3,8 مليارات أورو في ديسمبر/ كانون الأول 2010).

ومع ارتفاع نسبة التداين الأسري في تونس تتراكم لدى المحاكم آلاف القضايا المرفوعة ضد تونسيين عجزوا عن سداد ديونهم، مما يجعلهم عرضة للملاحقات القضائية وبعضهم يزج به في السجن

ويستأثر اقتناء مسكن جديد أو تحسينه بالنصيب الأكبر من قروض التونسيين بنسبة 85% بما يصل إلى 17.7 مليار دينار (8 مليار دولار) تليه القروض الموجهة إلى الاستهلاك البالغة مليارا دينار، أما المخصصة لاقتناء السيارات فتبلغ نحو 293 مليون دينار.

ويرى مسؤولون وخبراء اقتصاد أن تضاعف قيمة القروض في ظرف وجيز، يدل على ترسخ ظاهرة التداين الأسري وتوسعها بشكل لافت، من منطلق الحرص على تحسين ظروف المعيشة دون التفكير في تداعيات الإفراط في الاستدانة.

كنش الديون

وبالإضافة إلى المنتجات العديدة التي توفرها المصارف لتشجيع أصحاب الدخل القار على الاستدانة والحصول على قروض شخصية أو سكنية لا تزال الأشكال التقليدية للاقتراض تجد رواجا في الأوساط الشعبية وأشهرها “كنش الديون”.

تعرج سلوى على محل المواد الغذائية وهناك يفتح البائع “كنشا” ليسجل قيمة ما اشترت على وعد أن يتم التسديد بعد أيام عندما يحصل زوجها المبلغ اللازم.

وتقول سلوى لمراسلون إن “كنش الديون” هو أح الحلول التي تنتهجها كغيرها من الاسر الفقيرة لتسيير شؤونها اليومية، لكن هذا الحل يتحول إلى ديون مثقلة على الأسرة في حالة لم يحصل زوجها على عمل في السوق.

والمفاجئ في الأمر أن سلوى لا تملك كنشا واحدا للديون بحيها فلها أكثر من “كنش” لدى أكثر من بائع وكثيرا ما كانت تتحاشى المرور من أمام أحد الباعة كي لا يطالبها بدفع ما عليها بعد أن امتنع عن بيعها المزيد إلى حين سداد ما عليها.

تتحدث سلوى بنبرة يائسة لمراسلون مستحضرة واقعة قطع الكهرباء عن منزلها لمدة قرابة شهر حين مرض زوجها ولم يستطع العمل واضطرت هي للبقاء الى جانبه.

تكتفي سلوى ككل من في وضعها بشراء المستلزمات الضرورية من المواد وقد تغيب الغلال واللحوم عن مائدتها لأسابيع طويلة بسبب غلاء أسعارها.

وعرفت أسعار المواد الغذائية ارتفاعا كبيرا في الأسعار بلغ حد 15 بالمائة وهو ما يصفه عضو جمعية الدفاع عن المستهلك توفيق بن جميع بالمؤشر الخطير.

واحتلت تونس المرتبة الثالثة على مستوى دول شمال إفريقيا في مؤشر تكلفة المعيشة لعام 2017.

ويعتمد تونسيون بالمناطق الداخلية والأحياء الشعبية على “كنش ديون” وهو عبارة عن دفتر يدون فيه الباعة كشف حساب كل زبون لتتم عملية التسديد في نهاية كل أسبوع أو كل شهر. ولا تزال هذه الطريقة القديمة متداولة بالمناطق الداخلية والأحياء الشعبية المحاذية للعاصمة.

ويرى عضو منظمة الدفاع عن المستهلك أن هذه الطريقة في التداين هي الوحيدة المتبقية لعدد كبير من الأسر التونسية التي تعاني من صعوبات مادية كبيرة والتي تقدر نسبتها حسب المتحدث بحوالي 20بالمائة من إجمالي الأسر التونسية.

وتقول منظمة الدفاع عن المستهلك إن الطبقة المتوسطة باتت مهددة في ظل غلاء المعيشة وارتفاع نسب تداين التونسيين وفي أكثر من مناسبة حذر أيضا الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية تونسية) من تداعيات غلاء المعيشة على المناخ الاجتماعي وعبر عن قلقه من الارتفاع المشط لأسعار العديد من المواد وخاصة الغذائية.

ويؤكد عضو منظمة الدفاع عن المستهلك توفيق بن جميع لمراسلون بأن المواطن التونسي أصبح يتدين من أكثر من جهة على المدى الطويل، وهو أمر يؤثر سلبا على مستوى الادخار.

أغذية مسموسة

وبسبب تراجع القة للمواطن التونسي يقول بن جميع إن هناك نوعية غير صحية من الأغذية أصبحت متداولة في السوق التونسية أقفل ثمنا بسبب غلاء أسعار المواد الغذائية الصحية وهو ما انعكس على صحة المواطن وزاد من نسبة إصابته بالأمراض مما انعكس بدوره على حجم الميزانية التي تخصصها العائلة للتداوي.

وليست وضعية العربي وزوجته سلوى فريدة في ذلك حي الملاسين الشعبي فكثيرة هي الأسر التي باتت عاجزة عن مسايرة غلاء المعيشة ولم يعد “كنش الديون” وحده كافيا للصمود في وجه هذا النسق المجنون للأسعار وللمتطلبات.

ففي ذلك الحي يختار البعض تكوين “جمعية” لتحصيل مبلغ مالي محترم نسبيا قد يصل بعد فترة معينة.

وتتمثل الفكرة في أن يساهم كل عضو من هذه المجموعة بمبلغ مالي كل أسبوع على أن يحصل على المبلغ مجمعا بعد فترة معينة ويتم إجراء قرعة لتحديد ترتيب المنتفعين بكامل المبلغ.

وكثيرا ما عجزت سلوى عن توفير قسط الجمعية فتضطر لاقتراضه من أحد الجيران أو الأقارب على أن ترده ساعة حصولها على كامل المبلغ. وكثيرا ما كان مبلغ الجمعية يخصص لخلاص الإيجار حتى لا تجد الأسرة نفسها بلا مأوى.