مع نهاية فصل الصيف وبداية شهر سبتمبر ينتصب شبان وشابات بالشوارع الرئيسية للعاصمة يوزعون جذاذات تعلن عن مدارس ومعاهد وجامعات خاصة في حملات دعائية تستهدف جذب المزيد من التلاميذ الطلبة للقطاع الخاص.

هي ظواهر انتشرت في السنوات الأخيرة بالعاصمة تونس وحتى بالمدن الداخلية الكبرى كاشفة عن طفرة كبيرة في عدد مدارس التعليم الخاصّة بمختلف مستوياتها والتي باتت تلقى إقبالا كبيرا من طرف التونسيين رغم غلائها.

ولسنوات غير بعيدة كانت مؤسسات التعليم الخاصة في تونس وجهة الفاشلين من التلاميذ والطلبة ممن عجزوا عن النجاح في المدارس والمعاهد والجامعات العمومية (مؤسسات ممولة بالكامل من الدولة).

عودة القطاع الخاص

لكن قبل أعوام قليلة فقدت هذه المدارس والجامعات الحكومية بريقها لأسباب شتى مقابل انتشار كبير للمؤسسات الخاصة في كافة المستويات والتي باتت تستقبل آلاف التلاميذ والطلبة الذين فضلوا التوجه إلى القطاع الخاص.

وحاليا بلغ عدد المدارس الابتدائية والثانوية الخاصة خلال سنة الدراسية الحالية 374 مدرسة ومعهدا، بحسب ما أكد منذر ذويب مدير المرحلة الاعدادية والتعليم الثانوي بوزارة التربية التونسية.

ورغم غلاء أسعارها لم تعد مؤسسات التعليم الخاصة حكرا على الأحياء الراقية بالعاصمة أو المدن الكبرى بل اصبحت منتشرة حتّى بالأحياء الشعبية كما بات أيضا أبناء العائلات المتوسطة يقصدونها.

وتختلف تكاليف الدراسة بهذه المدارس من مؤسسة إلى أخرى بحسب نوعية الخدمات الإضافية التي تقدمها لمن يقصدها.

ويقول عماد العبيدي (موظف وولي لتلميذين) أنه يضطر لطلب قرض من البنك كل سنة لدفع تكاليف دراسة ابنيه بمدرسة خاصة والتي تتجاوز ستة آلاف دينار (حوالي ألفي دولار).

ويوضح لمراسلون أنه تخلى عن حلم امتلاك منزل وقرر أن يسجل ابنيه بمدرسة خاصة بحثا عن مستقبل أفضل لهما.

ويرى الكثيرون أن أكبر امتياز توفره المدارس الخاصة بالنسبة للولي هو العناية بالتلميذ في أوقات الفراغ وهو ما لا تقوم به المؤسسات العمومية.

ويقول عماد العبيدي إنه يترك ابنه أمام باب المدرسة وينصرف لعمله مرتاح البال دون أن يمضي يومه منشغلا بما قد يفعله في ساعات الفراغ لأن مدرسته تتكفل بالاعتناء به في تلك الأوقات.

ويقول رامي حامدي (مشرف على مدرسة خاصة) لمراسلون إن الولي يبحث بالمدرسة الخاصة عمن يقوم بدلا عنه بواجباته “فهو لا يترك فقط هناك ابنه طيلة اليوم مطمئن البال بل هو كذلك يتخلص من واجب مراجعة الدروس والقيام بالتمارين”.

تراجع المستوى

ورغم أن منظومة التعليم العمومي عرفت نجاحا كبيرا في بداية الستينات بعد أن راهنت دولة الاستقلال عليها إلا أنها ومنذ نهاية التسعينات شهدت تراجعا تفاقم خلال السنوات العشر الأخيرة. وتحتل تونس المرتبة 84 عالميا والسابعة عربيا من حيث جودة التعليم وفق مؤشرات البرنامج الدولي لتقييم التعليم لعام 2016. وتغيب الجامعات التونسية عن قائمات أفضل الجامعات عالميا وإفريقيا.

وتتعدد الأسباب التي تدفع التونسي للتوجه للمدارس الخاصة رغم غلاء تكاليفها ولعل الرفاهية التي توفرها المدارس الخاصة، والتي تحرص على أن تكون في أبهى حلة لأن ذلك يمثل عنصر الجذب الأول للأولياء هو أحد هذه العوامل، في مقابل تداعي البنية التحتية للمؤسسات العمومية والتي صارت مهترئة ولا توفر أسباب الراحة للتلميذ.

ويقول كاتب عام نقابة التعليم الابتدائي المستوري القمودي لمراسلون إن الدولة رفعت يدها عن المؤسسات العمومية التي باتت أقسامها غير صالحة للدراسة كما يفتقر بعضها أحيانا حتى للماء الصالح للشراب ببعض الجهات الداخلية.

ويرى النقابي أن “هذه الوضعية تجعل الولي يقصد المؤسسات الخاصة وهي مؤسسات ربحية يحرص أصحابها على تقديم ما يبيعونه في أفضل شكل”.

وتشهد المؤسسات التعليمية العمومية الكثير من الغيابات للإطار التربوي وهو ما ينعكس على سير الدروس. وبسبب الخلافات بين وزارتي الاشراف (التربية والتعليم العالي) والنقابات تعطلت الدروس خلال السنوات التي تلت الثورة بعد أن نفذ المدرسون إضرابات عديدة وبلغ الأمر حد التهديد بمقاطعة العودة المدرسية أو الامتناع عن إجراء الامتحانات.

البحث عن التميز

ويأمل الولي الذي يختار المؤسسة الخاصة أن يحصل ابنه على تكوين ممتاز في مواد واختصاصات لا توفرها المدارس العمومية ومنها خاصة اللغات.

وفي سنة 2015 أطلقت وزارة التربية حوارا وطنيا حول الإصلاح التربوي وتشكلت لجنة تضم الوزارات ذات العلاقة وممثلي الهياكل النقابية وممثلين عن منظمات المجتمع المدني بهدف تقديم مقترحات لإصلاح المنظومة التعليمية التي باتت عاجزة عن مواكبة التطورات ومتطلبات سوق الشغل.

وتوفر المدارس الخاصة للتلاميذ فرصة تعلم عدد أكبر من اللغات وفق مناهج تعليمية فرنسية وأمريكية وهو ما قد يمنحهم حظوظا أكبر في الحصول على عمل في المستقبل.

وتعرض الجامعات الخاصة فرصة التسجيل باختصاصات تقول انها مواكبة أكثر لسوق الشغل.

ويقول رامي حامدي ان الولي يعتقد أن المدارس الخاصة ستصنع بالضرورة من ابنه تلميذا متميزا لكنه ينفي أن يكون ذلك صحيحا في كل الحالات داعيا لمراجعة المنظومة التربوية.

ومع انتشار المدارس الخاصة يخشى البعض من أن يصبح التوجه نحو هذه المؤسسات ضرورة لا خيارا.

ويستبعد كل من المسؤول الحكومي والنقابي هذه الفرضية مؤكدين أن التعليم العمومي يظل الخيار الأول بالنسبة للعائلات التونسية.

ويمثل عدد التلاميذ الذين التحقوا بمؤسسات خاصة في المستوى الابتدائي والثانوي خلال هذه السنة 5 بالمائة فقط من اجمالي التلاميذ ولم يتجاوز عددهم 68 ألف تلميذ.