بصراحة.. لم أكن أعرف الكثير عن مصنع الحديد والصلب بحلوان، زرت حلوان مرة واحدة وأنا طفلة، لكن بعد ذلك لم تكن المنطقة ولا المصنع الكبير على قائمة اهتماماتي ولا خريطة تحركاتي.

حتى تلقيت تكليفا ذات صباح من رئيسي في العمل في الصحفية اليومية التي أعمل بها بالذهاب مع أحد الزملاء الصحفيين لتغطية اعتصام لعمال مصنع الحديد والصلب، كان علي أن أقطع سبع وعشرون محطة مترو كي أصل من منزلي في مصر الجديدة –شرق القاهرة- وحتى حلوان –جنوب القاهرة- في الطريق عرفت بضع معلومات.. إن جمال عبد الناصر هو من افتتح المصنع عام 1958، وكان يعد المصنع الأكبر بالشرق الأوسط، وأحد العلامات الكبيرة في الفترة الناصرية، طمح الكثير من الشباب للعمل بالصرح الصناعي الضخم.

 

عرفت أيضا أن عمال المصنع هم أكثر قطاعات الطبقة العاملة المصرية حيوية ونشاطا وخوضا للمعارك من أجل حقوقهم،ولكن في تلك المرة  كنت اظن أنه اعتصاما عاديا، وأن الصور التي يمكن أن التقطها لن تكون قوية بصريا، لكن هالني المشهد، مصنع الحديد والصلب بحلوان ليس مجرد مبنى ضخم، أو عدة مبان بجوار بعضها البعض، ولكنه أشبه بمدينة صغيرة –مساحة المصنع خمسة آلاف فدان مقسمة بين المصانع والأبنية السكنية – تضم آلاف العمال، الذين بدورهم يمكتلكون أسرا تعيش في الأغلب بالقرب من المصنع في حلوان وضواحيها، وهو مايجعل المصنع بالمركز الذي تدور حوله كل الأشياء.

 

على بوابة المصنع سمعت عن إضراب أغسطس 1989 ، فيما بعد عرفت انه كان من أقوى التحركات العمالية التي حدثت في عصر مبارك، كان السبب الرئيسي وراء الإضراب إصرار العمال على إصدار قرار صريح ورسمي من الأدارة برفع الحوافز من 90% إلى 115%، والضغط على وزير الصناعة لإلغاء قراره بوقف عضوي مجلس الإدارة المنتخبين من العمال. انتهى الإضراب باقتحام 15 ألف جندي أمن مركزي المصنع بالمصفحات، اندفعوا من الفتحات التي صنعتها المصفحات لفض الاعتصام، وهو ما لم يتوقعه العُمال الذين بدأوا بالاعتراض سلميًّا، وبدأ إطلاق الرصاص الحي والمطاطي، وأصيب عشرات العمال، فيما قُتل أحدهم، وهو العامل عبدالحي السيد حسن، الذي اسمه يتردد في الشركة إلى الآن، فعندما علم العمال بنبأ استشهاد زميلهم، ظلّوا يرددون بحرارة: “حي، حي، عبدالحي، لسّه حي”.

 

الاعتصام الذي ذهبت لتغطيته أيضا كان احتجاجا ايضا على عدم صرف 16 شهرا من حوافز الإنتاج و«الإنتاج الإضافى»، التى قررتها الجمعية العمومية للشركة.

ما أدهشني أنه خلال الوقفة حرص العمال علي تصحيح مفهوم خاطئ أصبح بالنسبة لهم نغمة عادية في الإعلام، وهو أن العمل قد توقف، وأنهم يعطلون عجلة الإنتاج. كان العمال مصرين على تصحيح ذلك المفهوم، موضحين أن هناك مجموعة من العمال يرفعون اللافتات المطالبة بحقوقهم أمام مبنى الإدارة ويهتفون رافضا لإهدار مستحقاتهم، بينما باقي العمال بالداخل أثناء وردياتهم والإنتاج لم يتوقف.

 

عند الاستماع إلى كلمات العمال، شعرت برغبتي تتزايد في رؤية المصنع من الداخل، فليس أمرا معتادا أن يجد الواحد فرصة لرؤية مصنع للحديد من الداخل.

 

وبالفعل بدأت جولتي والتحرك لمقابلة بعض المسئولين ومنها إلى جولة داخل المصنع الضخم، تجولنا داخل الورش المختلفة، من ورش البارد والساخن، وعند رؤيتي لتلك الأحجام الكبيرة التى يتعاملون معها من قطع غيار أو خامات حديد تسائلت عن الوسيلة التي يحملون بها هذه الأحجام، ليجيب أحد العاملين أن الوسيلة الوحيدة المناسبة لنقلها هى القطارات، والتى تصل من المناجم فى الواحات لمقر المصنع في حلوان، كما أن بعض الورش ترتبط ببعضها البعض من خلال سكه حديد داخليه لنقل المواد والمنتجات تسهيلا علي العمال وتوفيرا للوقت.

 

بحسب العمال أن هذا المصنع يعتبر الشركة الوحيدة فى مصر التى تعتمد على إنتاج الحديد من مرحلة الخام، وحتى صورته النهائية، دون استيراد أى شيء. يقول القيادي العمالي بالمصنع همام يوسف “أنه فى حال تعرض البلاد لأزمة طارئة أو حصار من أى نوع، فإن هذه هى الشركة الوحيدة التى يمكنها انتاج الحديد كسلعة استراتيجية، وهو ما انتبهت له الدولة إبان حكم الرئيس عبدالناصر وفترة من حكم الرئيس السادات، إذ كانت هناك كتيبة دفاع جوى تابعة للقوات المسلحة، مكلفة بحماية المصنع”.

 

سألت عن “الفرن العالي” كان لدي فضول لرؤيته منذ أن درسته في “باب الحديد” فى مادة الكيمياء بالثانوية العامة دائما ما كنت أتسائل  كيف يكون فرن ضخم بهذا الحجم وأين يقع وكيف يتم العمل به؟

وجدت الكثير من الاجابات عند وقوفي أمامه، ورأيت الفرن وهو يعمل والحديد الساخن يخرج منه ويتحرك على سير التبريد مما ينتج عنه دخان كثيف جدا.

 

فى داخل أحد الورش يدخل الحديد الأفران الساخنة كسائل متوهج، وتبدأ عملية تشكيله وصقله وبمجرد أن يخرج لوح الحديد الاحمر، ينقله السير بسرعة إلى مكابس تضغطه لتحدث فيه أثرا بالزيادة والنقصان، وتساعدها فى ذلك المياه التى تصطف فتحاتها أعلى سير نقل الألواح الساخنة لتساعد فى تبريدها.. كلمات احد العاملين شارحا لي كيفيه خروج الحديد من الفرن ومراحل العمل التي يتابعها. اخر يقوم بعمل اللحام لبعض قطع الحديد واخرين يقوموا بمتابعه الحديد المنصهر وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة أخرى.

 

يشرح أحد العمال أن آخر فرن أنشئ في الشركة كان عام 1979، أربعون عاما لم يتم تطوير الشركة، تعتمد الشركة في الاستمرار على عمل عمرات وصيانة وليس تطويرا حقيقيا.

“المصنع زي البحر والعمال فيه زي السمك لو خرجوا منه يموتوا”، بهذه الجمله تحدث عماد حليم 51 عاما، وهو يعمل بالمصنع بعد أن رفض عرض بقيمه 70 الف جنيه للخروج علي المعاش المبكر.ويعتبر حليم ومعظم زملائه العمال أن ما يحول بينهم وبين نجاح مصنعهم هو تطوير الالات التي يعملون بها والتي لا تزال علي حالها منذ افتتاح المصنع.

ولكن ليس الجميع كعماد، فعدد العمال في المصنع تقلص من ٢٥ ألف عامل إلى ١٢ ألف عامل نتيجة خروج الكثير من العمال على المعاش المبكر الذي أهدر خبرات فنية نادرة تفتقد إليها الشركة اليوم، كما أن أزمة الطاقة وتسعيرها تمثل عبئا كبيرا، وشبح خصخصة الشركة لايفارق الجميع.

في نهايه كل زيارة للمصنع، كان علينا أن نجد وسيله للخروج فإما أن تكون لديك سيارة أو تمتلك دراجة، حتى تتحرك بشكل حر داخل مصنع الحديد والصلب، والدراجات هي بالفعل الوسيلة لمعظم العاملين، بينما تساهم سيارات متهالكة فى نقل اخرين.. وركبنا معهم