كتابة وتصوير: هبة الخولي

كنت طفلة صغيرة، يصطحبها والدها لما كان يسميه “البلد” لم أكن أستوعب معني الكلمة، لكني كنت أدرك أنه شيء قريب من العذاب.
كنت أضطر لتحمل السفر في قطار لمدة تزيد عن الساعتين، ثم سيارة أخري حتي نصل إلي البيت الطيني البعيد عن كل ما آلفه في حياتي، هناك كنت أري ناساً على قدر كبير من الغرابة بالنسبة لي، بطريقتهم في الحديث والملبس، ويُظهرون الكثير من المحبة التي لا أعرف لها مصدر، كطفلة كنت أري الأخضر في كل مكان، والمنازل الصغيرة الطينية، كنا نلهو بتقشير الحوائط ونضحك عندما تسقط أمامنا على الأرض.

 

***
ظلت زيارتنا لبلدنا إجبارية، كمقرر الجغرافيا التي لا تُحبها وإن كنت تعرف إنك مُجبر علي مذاكرتها، كل سنة مرتين نذهب في هذه الرحلة، وفي كل مرة كانت الصور تختلف وكأنها فيلم يحكي عن تطور المكان مُصور بطريقة سريعة، لم أستوعبها طفلة، لكني عندما مر سنوات كثيرة وتنبه وعيي كمصورة، وقارنت بين ما عاصرته طفلة وما أراه أمامي، عرفت مدي التغيير الذي حدث.

 

***
كُنا نذهب لبيت أقاربنا البعيد عن منزلنا الذي يُعتبر في وسط القاهرة، في بلدة صغيرة تُدعي الحامول في محافظة المنوفية، جنوب القاهرة.
كانت علامة التي جعلتها إشارة للطريق لبيتهم ترعة كبيرة تتلوي كثعبان في الأرض، وعندما تلتوي يمينا، أرى الشجرة الضخمة وتحتها حمار مربوط يبدو عليه الهلاك، أعرف اننا وصلنا بيتهم، كان بيت طيني صغير من دورين، تعيش فيه ثلاثة أجيال من عائلة أبي.
الجد عبد العزيز والجدة سميرة، وابنائهم الذكور محمد وسعيد وزوجاتهم هبه وسماح، والأحفاد، عبد العزيز وفارس ومريم وسلمي.

كانوا يستقبلوننا في المساحة المنبسطة خارج المنزل، يضعون حصيرة، ونجلس، السماء فوقنا، والأخضر حولنا في كل مكان، ونأكل مما يزرعون، فيذهب محمد ويختفي عن أعيننا في الغيط، وكنا نتلهف أن نسير خلفه ونري أين يذهب، لكنه ما يلبث أن يعود محني ظهره تحت وطأه ما يحمله، شتاءا أعواد قصب كبيرة تغطي رأسه، وصيفا أعواد ذرة تتساقط حوله وهو يتحرك نحونا، ويجلس بجانبنا، يُعد الشاي علي النار في حفرة بجانبنا، وأثناء انشغاله بالفعل تصل لنا الكثير عبارات الترحيب الشديد، وتأتي هبة زوجته، بالقٌلل للشرب وبالفاكهة.. شتاءا برتقال، وصيفا موز.

***

كان والدي يستعجلنا دائما ونحن صغار لنتحرك بعد مضي القليل من الوقت، لنخرج من بيتهم مُحملين بما يُفرح بيتنا في القاهرة، لبن وبيض وسمن وأحيانا فطير وأعواد من القصب والذرة، وعادة أثناء العودة يستبد بي الفضول أن أري حياتهم عن قرب أكثر، كيف يعيشون وماذا يحدث في حياتهم؟


***

وتثني لي سبر أغوار هذا الغموض بعد أن أصبحت مصورة، عُدت لنفس البيت لأحصل علي الأجوبة، لكني لم أجد الطريق كما كنت اعرف، الترعة اختفي منها اللون الصافي، وكان بها الكثير من الأوساخ والقليل من الماء، وبدا أن الثعبان الذي كان ضخما يتلوي وكأنه مريض، لم أجد علامتي المميزة، فالشجرة اختفت ولم أعرف أين كان المنزل، وأضطررت للإتصال بوالدي لأسأله عن علامة أخري حتي وصلت.
لم أجد البيت الطيني الصغير وبدلا منه وجدت عمارة خرسانية كتلك التي تركتها في القاهرة هرباً من حرها، والأخضر الذي لم تكن عيني تجد له نهاية، تحول الكثير منه إلى مبان خرسانية تقطع على نظري رغبته في التجول الحر.

***


في البداية أُصبت بالأحباط، لم يكن هذا الذي عشته طفلة، لكني رضخت للأمر الواقع وتجولت معهم في حياتهم، فعاد لي شيء من الطمأنينة، ما زالوا يستيقظون في السادسة فجرا، ما زالوا يذهبون  للحقل ويرجعون بخيرات لتأكلها، مازالوا يكثرون من عبارات الترحيب، ولم يكن معي والدي هذه المرة، ولم أكن مُضطرة ان اذهب بعد نصف ساعة، فجلست معهم أسبوع، أستيقظ معهم وانام معهم، فكان يومي يبدأ من السادسة صباحا، وأيام الثلاثاء نذهب للسوق لبيع ما جادت به الأرض في الأسبوع المنصرم.

باقي الأسبوع  يذهب الأطفال للحضانة ويعودون يستذكرون ما تم تلقينه لهم، وتعمل هبة في البيت والحقل وأظل اتتبعها كظلها، وعندما يأتي ميعاد الغذاء أكاد لا أصدق ساعاتي التي تٌشير الي منتصف النهار فقط، وكأن الساعة في البلد لها إيقاع خاص، تأتي  الثامنة مساءا فيكون كل أعضاء المنزل في أسرتهم مُغلقة عيناهم، واتسائل بيني وبين نفسي، في الثامنة في القاهرة تبدأ السهرة، وهنا أنام كما الدجاج بعد الغروب.

***
بعد أن عشت مع العائلة في البلد تعلمت ألا انتظر ما كنت أراه صغيرة ولا أفهم معناه، تطورت حياتهم مع تطور الأيام، لكنهم ما زالوا يحتفظون بجمال قلوبهم، يُرحبون بك ويعطوا أفضل ما يملكون، وبابتسامة علي شفتيهم بكل رضا، يعملون في المنزل أغلب اليوم، وكل عملية تأخذ الكثير من الوقت مع القليل من التكنولوجيا التي تساعد ربة المنزل، لكنهم ينجزون أعمالهم بلا تفكير، ويعودون لأولادهم يُتابعون دروسهم.

هبة مثلها مثل أي أم في القاهرة، تتعب وتُهلك وتريد أن تري أولادها في أفضل حال، تعتني بالطيور والحيوانات بالمنزل وتُعاملهم معاملة حنينة، هي تعرف أنهم مصدر رأس مالهم، وتحن علي الأرض حتي تجود عليها بما يمكن لها أن تبيعه فتشتري لبنتها سلمي فستان تطير به الصغيرة فرحا، وتحن علي الفرن البلدي حتي يُساعدها في خبز ما يكفي أسبوعهم، وتذهب ليلا لتنام فلا تفكر فيما هو أبعد من الغد وما قد يجود به عليها.