يرى الكاتب الصحفي الجزائري ياسين تملالي في مقال تطرّق فيه إلى تاريخ الإخوان في الجزائر أن “الكره الذي كان يكنّه الإخوان المسلمون للرئيس بومدين يفسّره رفضهم لاصطفاف الجزائر مع المعسكر الشرقي و نبذهم للإصلاحات الاشتراكية كالثّورة الزراعية التي يرون أنها كانت مخالفة لقواعد الملكية في الاسلام“. كما ذكر أن الإسلاميين لم يتوانوا عن التقرب إلى الرئيس الشاذلي بن جديد سنوات الثمانينيات من أجل تشكيل “حلف مع النظام ضد الشيوعية” وهذا في اطار ما سمّاه بمحاولاته لتحرير الاقتصاد.
تحسب معظم الأحزاب الإسلامية المعتمدة في الجزائر على حركة الإخوان المسلمين. وإذ تأسست هذه الأحزاب نهاية الثمانينيات في خضم إقرار التعدّدية الحزبية التي أتى بها دستور فيفري 1989، تعود جذور حركة الإخوان كمرجعية فكرية في البلد إلى سنوات استقلاله الأولى، أي الستينيات و السبعينيات. وقد عارض الإخوان بقيادة محفوظ نحناح التوجّه الاشتراكي للدولة الجزائرية منذ البداية. لكن هل يكفي التذكير بمعارضة الإسلاميين للاشتراكية حتى نفهم طروحاتهم الاقتصادية؟
“رأسمالية المحسوبية“
في دراسته للتوجه الاقتصادي لحزب النهضة التونسي و حزب الإخوان المصري، وصف البروفيسور نادر حبيبي، أستاذ الاقتصاد في جامعة براندايس الأمريكية، عقيدة الحزبين ب”الرأسمالية الشاملة“. إذ يعتبر الإسلاميون في تونس كما في مصر –حسب نفس الدراسة- هذا التوجه بديلا ل”رأسمالية المحسوبية” التي كانت تسود البلدين قبل 2011 أي “توجّها يؤسس لنظام اقتصادي حر توزّع فيه عائدات النموّ على الجميع بدل بقائها حكرا على نخبة معينة“.
يرى نجيب بلحيمر، الكاتب الصحفي الجزائري المتابع لشؤون الأحزاب الإسلامية، أن هذا الوصف ينطبق على توجه التشكيلات الإسلامية الجزائرية إلى حد كبير. إذ يقدّر أنّها “لا تختلف عن إخوان مصر وتونس من حيث الطرح الاقتصادي“. ويضيف أن “هذه الأحزاب تحاول منذ عقود أن تؤسّس لمذهب اقتصادي إسلامي، لكنها لم تتمكّن من تحقيق نجاح كبير“. و حسب نفس المتحدّث، فإنّ “نظرية الاقتصاد الإسلامي” أقرب إلى الرأسمالية منها إلى طروحات الأنظمة المنبثقة عن الحركات التحرّرية للقرن الماضي و التي اختار معظمها نظما اشتراكية.
و في تحليله لمفهوم التوزيع العادل للثروات في نظر الأحزاب الاسلامية الجزائرية ، يقول نجيب بلحيمر:” تقوم النظريّة على مبدأ محوري في الإسلام و هو العدل. و باعتبار احتكار رجال الأعمال المقرّبين من السلطة للحركة الاقتصادية يضع البلد في خانة رأسمالية المحسوبية، فإن النظرة الاقتصادية لبرامج الأحزاب الإسلامية المشاركة في تشريعيات ماي 2017، تتطلّع لتوسيع رقعة المساهمة في اقتصاد حرّ تضبطه قواعد بعضها مستوحى من الاقتصاد الإسلامي“. و يتجلّى ذلك في برنامج حركة مجتمع السلم (حمس) التي أسّسها محفوظ نحناح، أكبر التشكيلات الإسلامية المعتمدة في الجزائر حاليا والتي تحصلت على 33 مقعدا بالمجلس الشعبي الوطني (الغرفة السفلى للبرلمان) بعد انتخابات ماي الماضي، إذ يلحّ هذا البرنامج على ضرورة تعزيز”الحرية الاقتصادية في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية المحقّقة للعدل والمساواة والأمن الاجتماعي“.
توافق مع العقيدة الاقتصادية لصندوق النّقد الدّولي
برنامج حمس كان مقتضبا في جانبه الاقتصادي و لم يتوسّع في شرح آليات تطبيق أفكاره العامة. إلا أن الوثيقة تحمل من الأدبيات و المقترحات اللّيبرالية التي يمكن قراءتها في أي تقرير لصندوق النقد الدولي يوصي بتقليص الإنفاق العمومي و بالخطوات التي يرى أنه من المستحسن اتّباعها من أجل الخروج بالجزائر من التبعية للمحروقات كتعزيز دور المؤسسات الصغيرة و المتوسطة وفتح الاقتصاد الجزائري أمام الاستثمار و المنافسة الأجنبيين. تدعو حمس مثلا إلى “ضبط مسـتويات وكيفيـات التدخل الحكومي في الاقتصاد و مكانة القطاع العمومي“، وهي فكرة تجد مثيلتها في توصيات صندوق النقد الدولي لمارس 2017 والتي تفيد ب “تحرير امكانيات القطاع الخاص الذي يجب أن يعوّض القطاع العمومي تدريجيا“.
في نفس السياق، اقترح عبد المجيد مناصرة، وزير الصناعة و إعادة الهيكلة بين 1997 و 2002 و الرئيس الحالي لحمس، إلغاء شرط إشراك طرف جزائري بنسبة 51% من الأسهم في أي مشروع أجنبي في الجزائر. و يقول في حوار خصّ به جريدة “وقت الجزائر” الناطقة بالعربية بداية أوت الحالي: “اقترحت إلغاء قاعدة 49/51 لأنها حقيقة معطّلة للاستثمار في بعض القطاعات وبؤرة فساد يستفيد منها بعض الأفراد“. و يذكر إحسان القاضي، مدير نشر الموقع الاقتصادي “مغرب ايميرجنت” أن حمس شاركت بدءا من جانفي 1996 بعدد من الوزراء في الحكومة التي تكفّلت بتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي الذي أملاه صندوق النقد الدولي على الجزائر في سنوات التسعينيات، و هذا بتزكية من الشيخ المرحوم نحناح الذي لم يعارض أية جزئية من البرنامج.
في كل الأحوال، نجد نفس التّوجّه في برنامج الاتحاد المسمّى “النهضة و العدالة و البناء” الذي تكوّن بمناسبة انتخابات ماي 2017 بتحالف حركة النهضة مع جبهة العدالة والتنمية و حركة البناء و هما حزبان انشقا عن حركة النهضة في ما مضى. طالبت هذه التشكيلة ب”رفع القيود عن الاستثمار الخاص” وألحّت على ضرورة إصلاح المنظومات المصرفية و الجبائية و الجمركية من أجل دفع عجلة النمو كما أوصى صندوق النقد الدولي في جوان 2017 بجعل القطاع الخاص “محركا للنمو” و دعا إلى “اصلاحات هيكلية” من أجل تخفيض تبعية الاقتصاد الجزائري للمحروقات. حتى الجبهة الاسلامية للإنقاذ المحلّة (الحزب الاسلامي الأكثر تشدّدا و الذي حُظِر بعد توقيف المسار الانتخابي في جانفي 1992)، كان توجهها ليبراليا و كانت السبّاقة، مثلا، إلى المطالبة بتحرير سعر صرف الدينار الجزائري و تحرير الحصول على العملات الأجنبية.
ضعف في البرامج و جدل حول العمليات المالية “الربوية“
وإن أرجع نجيب بلحيمر سكوت حركة حمس إلى عدم اطّلاعها على الحقائق الاقتصادية: “لم تضع مشاركة حمس في تلك الحكومة في موقع صناعة القرار الاقتصادي، بل إنها، وباعتراف من رئيسها السابق، لم تكن مطّلعة على الحقائق الاقتصادية ولا على كيفية اتّخاذ القرارات الحاسمة في تلك الفترة“. وإن أرجع توافق عقيدة هذه البرامج مع توصيات صندوق النقد الدولي إلى أن مثل هذه الأفكار تعتبر مداخل أساسية لإصلاح الأنظمة الاقتصادية المعطّلة و دفعها نحو الإقلاع. فكل هذه البرامج تهدف إلى بناء اقتصاد رأسمالي، نجد فيها مطالبة بالحدّ من تدخّل الدولة، التخلي عن سياسات الدعم المكلفة لخزينة الدولة وتحرير المنافسة. وهي متفتحة على الاستثمار الأجنبي المباشر كما تشجّع على بناء علاقات جيدة مع المؤسّسات الاقتصادية والتجارية الدولية.
لكن مع ذلك تبقى برامج الأحزاب الإسلامية الجزائرية غير متّسقة في بعض الجوانب المهمة. إذ يمكن أن تشكل نظرتها للتعاملات المالية عائقا أمام تدفّق رؤوس الأموال. “الانفتاح على الاقتصاد العالمي يعني استقبال تدفّقات رؤوس الأموال الأجنبية و التكيّف مع متطلباتها ومعايير تسييرها. هناك الكثير من الضّوابط التي قد تضايق الإسلاميين لعدم تلاؤمها مع مبادئهم. لا يمكنك فرض قواعدك على منظمة التجارة الدولية مثلا“، يشير إحسان القاضي.
فعلا، فإذا اكتفى اتحاد “النهضة والعدالة والبناء” باقتراح فتح شبابيك “غير ربوية” في البنوك العمومية إلى جانب الشبابيك المخصّصة للمعاملات المالية العادية أو ” الربوية” حسب التّعبير المتعارف عليه في أدبيات الأحزاب الاسلامية، فإن حركة مجتمع السلم تدعو إلى ” التّحرر التدريجي” من التعاملات العالمية المبنية على ” الربا و الغشّ و الاحتكار” والتأسيس لنظام بنكي إسلامي. مَطالب، يقول نجيب بلحيمر أنها، موافقة للواقع الاقتصادي الدولي. و يسترسل شارحا: “كل ما تطالب به حمس هو تقنين التعاملات غير الربوية وتشجيع التعاملات المصرفية الإسلامية، وهي هنا تشير إلى تجارب بعض البنوك الغربية التي أطلقت خدمات مصرفية تسمى إسلامية، وطورت منتجات ملائمة لهذه الفكرة، ثم إن الاجتهادات الفقهية تدفع باستمرار نحو التوافق مع القواعد الاقتصادية المعمول بها عالميا“.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الخدمات البنكية التي تُحشر في خانة المنتجات الإسلامية أو المنتجات التي يعتبرها الإسلاميون “حلالا“، هي من مشتقات البيع بالإيجار.
باختصار، وإن وضعت برامج الأحزاب الاسلامية الجزائرية في خانة “الرأسمالية الشاملة“، فهي ضعيفة المحتوى مقارنة بنظرائها في البلدان المجاورة. إذ يلاحظ المتصفّح للوثائق المؤسّسة لهذه البرامج أنها تكاد تخلو من الأرقام و البيانات التي تبنى عليها النظرة الاقتصادية، فلا تعدو آراؤها أن تكون مقترحات بل هي مجرد رغبات. “تعود هذه الهشاشة إلى افتقار الأحزاب الجزائرية (اسلامية كانت ام غير اسلامية) للمعلومة الاقتصادية و عدم اعتمادها على الخبراء. هذا يجعل برامجها مجرّد نصوص إنشائية مدبّجة ببعض الشعارات والأماني وأحاديث عن القيم الأخلاقية“، يعلق نجيب بلحيمر. ويوافقه إحسان القاضي الرأي بالنسبة للأحزاب الإسلاميّة: “لا يمكن أن نجد اسم قائد واحد من قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ مثلا يكون قد عمل على وضع بذرة برنامج اقتصادي. كانوا يقولون: سنمنع هذا و هذا و ذاك، لكن هذا ليس برنامجا“.