“لا أعرف أين أبي وأمي” هذا ماقاله لنا الطفل محمد الذى بترت يده اليمني وأصيب وجهه ورأسه بجروح تبدو ندباتها عميقة، وترافقه طفلة صغيرة اسمها شهادة يقول إنها أخته، يعيشان معاً رفقة ستة وعشرين طفلاً آخرين في مبنى إداري تابع لفرع الهلال الأحمر بمدينة مصراتة، بعد أن فقدوا أهاليهم المنتمين لتنظيم الدولة الإسلامية في معركة تحرير سرت.

يقول الطفل إسلام السيد “لن أعود إلى سرت أريد البقاء هنا، في سرت الماء قليل و لم نكن نأكل كل يوم، هنا لدينا تلفزيون وألعاب.. المكان حلو”.

المبنى الذي يعيش فيه الأطفال مخصص لورش العمل و التدريب، يتناوب على رعايتهم أفراد من الهلال الأحمر وتصلهم “المعونات من أهل الخير” حسب علي الغويل رئيس قسم الإعلام والتوثيق بجمعية الهلال الأحمر.

أطفال في السجون

أعمار هؤلاء الأطفال لم تتجاوز التاسعة، وهم ضحايا حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل سوى أن آباءهم وأمهاتهم اختاروا لهم هذا المصير، ولكن تبقى أوضاعهم أفضل بكثير من أقران لهم تتراوح أعمارهم بين عام واحد و 11 عاماً يقبعون داخل السجون الليبية بسبب شبهات إرهابية تتعلق بأهاليهم.

فبحسب مصدر مسؤول من سجن القاعدة الجوية بمصراتة تم انتشال إحدى عشر جثة لأطفال، وأكثر من خمسين كانت إصاباتهم تتراوح بين خطيرة ومتوسطة تم إخراجهم من تحت الأنقاض في حرب سرت، بينما أكثر من مائة امرأة ومائة طفل تم تسليمهم للكلية الجوية في مصراتة.

عدد الأطفال الذين فقدوا والديهم حسب نفس المصدر هم سبعة أطفال من السودان، وستة أطفال من تونس، وخمسة عشر طفلاً من جمهورية مصر، وفتاة من السنغال، وفتاة والدتها بريطانية، ويوجد كذلك داخل مركز الإيواء بالقاعدة الجوية عشرة نساء من دولة تونس معهم خمسة عشر طفلاً تسعة ذكور وستة إناث.

بالإضافة لهؤلاء تسلم المركز طفلين من السنغال وآخر من تشاد بعد أن ثبت وجود أمهاتهم داخله، ويوجد خمسة أطفال مجهولو الجنسية داخل المركز، أما الأطفال الذين ثبت أنهم ليبيون فقد تسلمهم ذووهم.

حرب صبراتة

الحرب التي شنتها قوات البنيان المرصوص على تنظيم الدولة الإسلامية في سرت لم تكن الأولى في غرب ليبيا، فقد سبقتها معارك تم خوضها في مدينة صبراتة على ساحل ليبيا الغربي في فبراير 2016، وأسفرت عن هزيمة التنظيم في تلك المدينة، وبحسب أحمد بن سالم المتحدث باسم قوات الردع الخاصة بسجن معتيقة بطرابلس فقد أودع السجن عدد من النساء والأطفال بعد تلك الحرب.

يقول بن سالم “استلمنا واحداً وعشرين طفلاً وثلاث عشرة امرأة بعد اشتباكات صبراتة فبراير 2016، جميعهم من تونس باستثناء سيدة من السنغال، وهم يتلقون الرعاية في مؤسسة معيتيقة للإصلاح و التأهيل”.

تونس ترفض

حسب بن سالم فإن المؤسسة تواصلت مع لجنة التونسيين بالخارج لاستلامهم ولكنها “رفضت ذلك، كما تم التواصل مباشرة مع أهالي السجناء إلا أن الحكومة التونسية لم تتجاوب لمطالبهم”، موضحاً بأن المؤسسة ترحب بتسليمهم للسلطات التونسية بطرق قانونية عن طريق النائب العام وعن طريق دوائر الدولة، ويرغبون بالتسليم دون أي توثيق إعلامي “لأن هذه القضية تمس الدولة” على حد تعبيره.

في ذات السياق قال علي الغويل رئيس قسم الإعلام و الثوتيق بجمعية الهلال الاحمر “إن الهلال يقوم بواجباته تجاه هؤلاء الأطفال، وقد طلبنا من وزارة الخارجية الليبية الاتصال بالجهات المعنية لدولهم للاعتراف بهم و تسلمهم، لأننا في جمعية الهلال الأحمر ليس من مهامنا إيواء الأطفال ولكننا لن نتهرب من هذه المسؤولية”.

ويؤكد كلامه فيصل جلوال دكتور الدعم النفسي وأحد المكلفين من جمعية الهلال الأحمر بالاتصال بأقارب الأطفال “تواصلنا مع أهالي بعض الأطفال وزارنا عدد من المنظمات ولكن لا يحق لنا التواصل مع حكومات الأطفال إلا عن طريق الخارجية الليبية، لأن الموضوع سياسي بالدرجة الأولى ولكن لم يتم التعامل إلا مع الجانب الإنساني في المسألة”

يحتاجون العلاج

“انت جارية .. انت فاسدة” عبارة نعت بها طفل عمره 10 سنوات إحدى الفتيات داخل المأوى، وهو طفل أبيض الوجه بملامح تبدو بريئة إلا أنه كثير الحركة ومشاغب وسلوكه عدواني تجاه الأطفال، يقول الغويل “حاولنا بمنتهى الصبر أن نشغله باللعب والترفيه، والآن هو أفضل بكثير مما كان عليه”.

ولكن جميعهم عند استقبالهم كانوا يمرون بمرحلة “اكتئاب ما بعد الصدمة” وذلك بسبب سماعهم طول الوقت لأصوات الطائرات والتفجيرات ومشاهدة الجثث، أو بسبب خوف المحيطين بهم من الأكبر سناً أو حتى مشاهدة أحد والديهم يفارق الحياة.

فتاة سمراء البشرة من السودان وصلت إلى المركز – حسب أحد أطباء الهلال – وهي تعاني من سوء التغدية وجسمها هزيل جداً “وعند سؤالها ماذا كنت تأكلين؟ قالت معجون طماطم مخلوط بالماء لا يوجد لدينا أكل أبداً”، أما الآن بحسب الطبيب فقد تحسن حالها وأصبحت تتمتع بوزن وصحة جيدين.

وحسب جلوال فقد عانى بعض الأطفال من إصابات خطرة في الرأس والصدر والأطراف بشظايا وأعيرة نارية، وكانت حالتهم الجسدية سيئة جداً فمعظمهم عانى من الإسهال والجرب، وبالعلاج بدؤوا يستعيدون قدراتهم على الحركة والكلام.

برنامج ترفيهي

أشرف على علاج الأطفال فريق التطوع للدعم النفسي التابع للهلال الاحمر مصراتة، وطالبات أكاديمية الدراسات العليا الليبية قسم علم النفس، حيث تم تنظيم يومين بمشاركة جمعية الأخوة الليبية السوادنية للترفيه عن الأطفال عن طريق برامج الألعاب الهوائية وألعاب الكرة، وكذلك الرسم والتعبير، وتم تطبيق نظرية جميع البيانات الخاصة بالتحليل الدقيق للشخصية التي ساعدت المختصين في فهم المشاكل النفسية للأطفال، وحسب جلوال فإنهم تحسنوا كثيراً عما كانوا عليه قبل أشهر، وخرج معظمهم من حالة الاكتئاب.

“لم نحتج لإعطاءهم أدوية، ولكن كان هناك حالتان احتاجتا لبعض المهدئات المنومة التي تم وصفها لهم عن طريق أخصائيين نفسيين لفترة لم تتجاوز الأسبوع، كانوا يعانون من حالات الضحك والبكاء، والتشنج والإرهاق من قلة النوم و ضيق التنفس الناتج عن حالة الاكتئاب” يقول جلوال.

ختاماً يقول الصديق الصور رئيس مكتب التحقيقات بمكتب النائب العام “أعيد ثمانية أطفال سودانيين إلى الخرطوم، تتراوح أعمارهم ما بين 10 أشهر و 9 سنوات، وسيتم تسليم باقي الأطفال في المدة القريبة وفق المخاطبات التي وصلتنا من الجهات الرسمية لدولهم”.

حتى ذلك الحين سيبقى هؤلاء الأطفال حبيسي جدران السجون، والتي وإن تزينت من الداخل تبقى سجوناً، ليغادروها فيما بعد إلى سجن أكبر يحدد مساحاته مدى تقبل مجتمعاتهم لارتباط أسمائهم بتنظيم الدولة الإسلامية سيء السمعة.