تبدو الفيوم فى صور القمر الصناعى وكأنها “جنين” موصول بحبل سرى- بحر يوسف- بوادى النيل، أو كأنها “رضيع” متعلق بصدر أمه، وتترأى لجمال حمدان فى كتابه “شخصية مصر”، الصادر عام 1967، وكأنها تتشكل فى أوجه ثلاثة: كدائرة أو كمثلث أوككأس، لكنه يحسم تشبيهه: “يبدو شكل الفيوم أشبه على الجملة بورقة شجر الأسفندان maple، غصنها أو عودها القصير هو وادى بحر يوسف من اللاهون حتى مدينة الفيوم، وعروقها هى شبكة الترع والمصارف المتشعبة التى تتشعع داخلها”. وللسفندان مسمى شائع أكثر هو “القيقب”، وهو جنس نباتي يوجد منه حوالي 125 نوعاً، معظمها من الأشجار أو الشجيرات، ينمو في المناطق الشمالية في روسيا وأوروبا وكندا؛ التى ينتصف رسم باللون الأحمر لورقته ذات الزوايا الأربعة عشر علمها.

***

يضع، حمدان، الفيوم بإزاء الوادى والدلتا؛ باعتبار الثلاثة “أقاليم رئيسية واضحة توفر على الجغرافى مشقة الاجتهاد”، ويبرز فرادتها: كإقليم خاص وكبيئة لا نظير لها بين سائر أقاليم مصر وبيئاتها. ويلاحظ أنها منخفض واحى، حوض مقعر مغلق تتحلق حوله الحافات الحادة والمرتفعات العالية، وأنه حوض صرف داخلى أصلا يقع جزء كبير منه تحت مستوى سطح البحر بكثير، وأن انحداره الأساسى- في مستويات ثلاثة رئيسية- نحو الشمال الغربى، كباقى منخفضات الصحراء الغربية، إلا أنه لفضل قربه الشديد من الوادى إلى حد الالتصاق تقريبا يتصل بالنيل- عبر بحر يوسف، أحد فروع ترعة الإبراهيمية، التى تنبع من ديروط، بمحافظة أسيوط، مارة بمحافظتى المنيا وبني سويف- من خلال فتحة ضيقة كالعنق هى فتحة اللاهون- الهوارة.

وإذ يلاحظ، حمدان، أن الفيوم “تخلفت حديثا مقارنة بباقى أقاليم مصر تخلفا لا شك فيه”، يرجع ذلك إلى مشكلة الصرف- الزراعى- التى جعلتها “عاجزة عمليا عن النمو أو التطور أو التوسع، فى حالة “تبريد عميق” أو “موضوعة فى النفتالين” كما قيل، وبتحديد أكثر، فلأنها ممنوعة من الصرف، كانت الفيوم ممنوعة من النمو”، وسبب المشكلة يرجع إلى بحيرة قارون “أخطر أقاليم الفيوم، بالمعنى السلبى السيئ. فهذه البحيرة، بخطر ارتفاع منسوبها، أصبحت ضابط إيقاع أى ارتفاع فى مستوى حياة الفيوم، ولأنها واقعة طبوغرافيا تحت أقدام الواحة غدت بمثابة قيد ثقيل كالأغلال فى أقدامها يجعلها مشلولة الحركة، وهذه البركة السائلة الرجراجة، بضيقها وجمود سعتها، قد وضعت المنخفض بأسره فى “قفص حديدى” حددت هى بحدة وصرامة أبعاده فلا تزيد ولا تنقص، أو يمكن أن تنقص ولكن لا تزيد.”.

بدون تعسف، ومع مراعاة “شعرية” بعض الأوصاف، يبدو الوصف الجغرافى “خانقا” موحيا بـ”سجن” شكله جدل الطبيعة والإنسان.

***

فى التاريخ تظهر بدايات إحياء الفيوم كفعل ترويض، ولجم، وتهذيب للطبيعة: النهر والمستنقع والصحراء بكل مفرداتهم، وتبدو كابنة مدللة لفراعنة الأسرة الثانية عشر(1991- 1759 ق.م) من الدولة الوسطى (2123- 1778ق.م) الذى توصف بأنها شهدت رخاءً اقتصاديا واستقرارا سياسيا باهرا.

لحوالى قرن ونصف القرن، إذا، كانت الفيوم، وقوس دائرتها الشمالى القريب، الشغل الشاغر للفراعنة، نظموا ريها واستصلحوا مستنقعاتها وعمروا أرضها وسكنوها واتخذوها عاصمة لهم، ثم تذكر كل المراجع أن ذلك الرخاء الهائل رافقه تنظيم دقيق وصارم للقانون وللسجون حيث “عُثر علي قوائم بأسماء بعض السجناء في سجن اللاهون، الذي يوجد في إقليم الفيوم، الذى كان يُعد واحداً من أشهر سجون مصر القديمة”.

***

فى المخيال الإسلامي- اللاتاريخي-  يقرن السجن بمصر فقط دون باقى بلاد الدنيا، ومع الإقرار بأن “تاريخية” فصول قصة يوسف وقصة موسى غائمة وغير محددة، ولا وثائق أو أدلة علمية عليها يرسم ذلك المخيال قضبانا حديدية حول مصر “وطواغيتها”، وتشكل الفيوم مسرحا للعديد من المشاهد: السجن، تعاقب الخصب والجدب. وترشح لنا أخيلة وتسميات وركام من المرويات عن الفيوم كسجن، وكمخزن محصن، وكمخبأ لكنوز خرافية.

***

ومن العصر البلطمى يمدنا أرشيف زينون، الذي يرجع إلي حوالي منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، بعدد كبير من الوثائق البردية ذات الأهمية التاريخية، من ضمنها وثائق عن ما يسمى بالسجن الملكي، ويقصد به السجن الحكومي، وهو فى الواقع “سجن خاص”.

فى واقعة اكتشاف ذلك الأرشيف، التى تمت مصادفة، نجد ملامح رئيسية من “شخصية الفيوم” وظلال السجن واضحة عليها: هناك أولا: زينون صاحب الأرشيف، وهو وكيل أعمال أبوللونيوس، وزير مالية الملك بطلميوس الثاني (فيلادلفوس). الملك اقتطع للوزير ضيعة بالفيوم، هى قرية (فيلادلفيا- سميت على اسم الملك كما هو واضح) التى هى كوم الحمام الحالية، والوزير كلف زينون بإدارتها. هنا ملمح رئيسى فى سيرة الفيوم عقب نهاية عصرها الذهبى مع فراعنة الأسرة الثانية عشر: أنها ضياع موهوبة لكبار رجال الإدارة فى سلطة الحكم أيا كانت.

وهناك ثانيا: مهام زينون فى إدارة ضيعة سيده الذى كان من ضمنها: القضاء والإشراف على السجن. وهنا ملمح رئيسى آخر؛ فالسجن “الخاص” يبدو وكأنه لصيق بالفيوم أكثر من غيرها.

وثالثا: واقعة اكتشاف الأرشيف نفسه، فالظاهر أن زينون هذا كان مخلصا ودقيقا فكان يسجل كل شيء عن أعمال الوزير ومن ضمنها سجلات متعلقة بشئون الدولة العليا: الحرب، والعلاقات الخارجية، والتجارة، وبمرور الوقت أضحى لديه أرشيف ضخم. وبعد نحو اثنين وعشرين قرنا، وفى مفتتح القرن العشرين كشفت الصدفة عن جانب من ذلك الأرشيف؛ فبينما “كان عمال فى إحدى البعثات الأثرية يبحثون فى أطلال مدينة (تبتوبس)- أم البريجات-، جنوب الفيوم ولم يوفقوا، لأنهم لم يستخرجوا سوى موميات التماسيح المحنطة التى لم تكن بذات قيمة علمية، وساء ذلك رئيس العمال الذى انهال بفأسه على إحدى الموميات، وسرعان ما اكتشف آلاف الوثائق البردية، وأصبح العثور على إحدى موميات التماسيح المحنطة يعنى العثور على كمية كبيرة من أوراق البردى”.

***

فى الفصل الأول” المؤسسات الكاملة الصارمة” من القسم الرابع” السجن” فى كتابه” المراقبة والمعاقبة- ولادة السجن” يعتبر ميشيل فوكو أن”السجن أقل حداثة مما يقال عندما يُجْعَلُ منشأه مع نشأة القوانين الجديدة. إن الشكل- السجن سبق وجوده استخدامه المنهجى بموجب القوانين الجزائية”. ويلاحظ أن السجن بوصفه” الشكل الأكثر مباشرة والأكثر حضارة من بين كل العقوبات” قد بدأ تحققه فى منعطف القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر”، حيث ولد الانتقال إلى عقوبة الاعتقال؛ وظهر الشكل البسيط للسجن “الحرمان من الحرية”، وبدأ يعلب “دوره المفترض أو المطلوب، كجهاز لتغيير الأفراد”، عبر العزل المحكوم عن العالم الخارجى.

***

فى مصر من الواقعى أن نتحدث عن “تحديث” وليس “حداثة”، وعن تحديث محكوم بشروط خاصة مفارقة عن آليات وقوة دفع الحداثة كمفاهيم وتصورات محمولة على واقع مادى، اقتصادى واجتماعى وسياسى وحقوقى، نتاج تطور العامل الذاتية فى المجتمعات الأوروبية والأمريكية التى يتحدث عنها فوكو.

فهنا هناك فارق زمى قرن على أقل تقدير، فـ”المنعطف” هنا كان فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وتم تحت ظل تأثيرين هامين للغاية: التدخل الأجنبى والاحتلال المباشر.

وإذ يقرر المؤرخون (يونان لبيب رزق وآخرون) أن ذلك “المنعطف” قد تأسس فى أيام الخديو إسماعيل الأخيرة فى الحكم (1878- 1879) يبرزون أن البداية كانت تهدف لتقييد “السلطة المطلقة التى يمارسها الخديو فى البلاد” عبر تشكيل أول نظارة- وزارة- فى تاريخ مصر الحديث، والتى كان الأمر العالى الصادر من الخديو إلى رئيسها، دولتلو نوبار باشا، بتكليفه تشكيلها مكتوبا باللغة “الفرنساوية”، وأن الوزارة تضمنت وجود ناظر- وزير- إنجليزى- للمالية- وآخر فرنسى- للأشغال العمومية-.

هذه هى الحركة الأولى للانعطافة المصرية نحو ولادة السجن” عقوبة المجتمعات المتحضرة”، كما يقول فوكو، فمع تشكيل النظارة الأولى للداخلية التى شغلها رئيس النظار نوبار بنفسه أضحت شئون “الحبسخانات” من اختصاص نظارة الداخلية، وتلازمت عبر ثلاثة عقود خطوات الاستقلال الفعلى- الدستورى والقانونى- عن الدولة العثمانية فى ظلال الاحتلال المباشر وإعلان الحماية البريطانية على مصر، مع خطوات تحديث الجهاز الإدارى والبنية التحتية للاقتصاد وإصلاح وتنظيم القضاء والسجون، فأنشئ فى المدة بين سنة 1900و 1910 عشرون سجنًاُ فى جهات القطر المختلفة، كان سجن الفيوم العمومى من بينها.

***

كان السجن الفيوم العمومى معزولا عن المدينة التى تقع شماله حيث توجد كل مفردات تاريخها، فهو أنشأ بالقرب من منطقة زراعية جرفت أجزاء من حوافها من قبل لتبنى عليها محطة القطار لخط السكك الحديدية الواصل من الواسطة- 1868- للفيوم، وللخط الواصل من الفيوم إلى أبو كساه- 1869-، أمام المحطة كانت مساحة منبسطة تشرف على بحر يوسف والمنطقة المحيطة بها فى كل الاتجاهات لا يوجد بقربها عمران قريب، لكن نمو المدينة طوال خمسة عقود جعلها تزحف باتجاه محطة القطار والسجن؛ الذى أضحى فى بداية عقد الستينيات مركز المدينة، واقعا لا مجازا، فهو أخر معالم المدينة البارزة للذى يغادرها، وأول ما يراه القادم إليها، وانتفت تماما وظيفة العزل، واعتاد السجن المدينة كما اعتادته.

وقع زحف العمران باتجاه السجن فى مناطق أخرى، فى طرة ومجمع سجونها الشهيرة، مثلا، لكنه كان يبدو زحفا حذرا، وربما من اتجاه واحد أو اتجاهين، فى الفيوم كانت هناك جرأة ملحوظة واحاطة تامة؛ آشبه بحصار محكم، وبمرور الآيام والاعتياد يبدو أن أهالى الفيوم نسوا سجنهم الحكومى، أو حجبوه بصورة أخرى متخيلة.

***

فى مرحلة الاعتياد والحجب هذه ظهر معتقل العزب على سطح الصراع السياسى الخشن بين سلطة عبدالناصر والشيوعيين (1959- 1964). المعتقل يقع جنوب غرب المدينة، قريبا من مناطق السجون التاريخية: الفرعونية والبطلمية والرومانية التى سبق ذكرها، وشهد أول تطبيق للفقرة “د” من مادة”1″ من  قانون السجون الذى أصدره عبدالناصر عام 1956، والتى تنص على:” سجون خاصة تنشأ بقرار من رئيس الجمهورية تعين فيه فئات المسجونين الذين يودعون بها وكيفية معاملتهم وشروط الإفراج عنهم”.

***

فى كتابات وروايات عديدة (محمود السعدنى، فتحى عبدالفتاح، معين بسيسو، رءوف مسعد( عن تلك الفترة ترسم صورا شائه: كان معتقل الفيوم فى الأصل معسكرا للجيش البريطانى أثناء الحرب العالمية الأخيرة، ثم كان، ولسنوات طويلة، سجنا لتجار المخدرات الذين لم يصدر ضدهم أحكام لحرصهم الشديد ولعدم وجود أدلة ضدهم، كنا نتصور أنه “معتقل الأحلام” فالبعض تصور أن معتقلا فى الفيوم لابد أن يكتسب شيئا من صفات الفيوم، وشطح البعض بعيدا فزعم أن معتقل الفيوم على شاطيء بحيرة يسبح فيها البط وعامرة بكل أنواع الأسماك، مسموح للمعتقلين بالصيد وبالسباحة أيضا، فإذ به أسوأ المعتقلات، أسوأ سجون مصر على الإطلاق، إن لم يكن أسوأ سجون الدنيا كلها.

ويبدو أن عقلا ما فى السلطة كان مطلعا بدقة على تاريخ الفيوم وتذكر أن ملوك “البطالمة” اتخذوها حقلا للتجارب الزراعية والحيوانية وجلبوا لها الأشجار والحيوان من بلادهم وبلاد أخرى، وأراد أن يكون معتقل العزب “حقلا للتجارب على إرادة المعتقلين”: فى العزب ستكون فرصة الصيد أكبر، الدولة قررت أن تمنح كلا منكم فرصة لتوضيح موقفه السياسى تمهيدا لتصفية المعتقل، كانوا يحضرون الزوجة، يطلبون منها مفتاح البيت، ويفتحون زنزانة المعتقل، يمضون به لمكتب مأمور السجن، يضعون مفتاح بيته أمامه فوق ورقة بيضاء وبجوارها قلم، ويقولون له: إن زوجتك وأطفالك فى انتظارك.

تتباين تقييمات نتائج التجارب على إرادة المعتقلين فى سجن العزب التى يصفها صلاح عيسى بأنها “لعبة الاستيعاب المتبادل بين عبدالناصر والشيوعيين”، فالبعض وبنبرة حماسية يقول: فشلت حرب سجن الفيوم، بعد عدة أشهر من تهديد أجهزة المباحث واغرائها، كان من الواضح فى الأيام الأخيرة لنا فى معتقل العزب بالفيوم أنهم بصدد تصفية المعتقل بعد أن فشلوا فى تحويله إلى مكان للإرهاب والتعذيب..وإن كانوا قد احتفظوا به ليتحول بعد ذلك إلى معتقل (تصفية)..أى لمن يرغبون أن يخرجوا بالثمن الذى يفرض عليهم”. لكن الواقع يقول أن “اللعبة” انتهت لصالح السلطة بلا جدال، وأن معتقل العزب لعب دورا هاما فى صنع تلك النتيجة.

***

بعد عقدين، وفى الخريف الرابع للغضب تشهد الفسحة المحدودة أمام سجن الفيوم العمومى- مركز وقلب المدينة الفعلى- تظاهرة طريفة بين كل تظاهرات الدنيا: كان بضع عشرات من مريدى الشيخ عمر عبدالرحمن قادمين من بيت الشيخ فى حى الحادقة عبر حى الورشة، ثم توقفوا فى تلك الفسحة، وأخذوا يرددون خلف الشيخ كلمة واحدة: “الخلوة” بإيقاع منتظم منغم وبدت حركتهم وكأنهم يرقصون على وقع نغم داخلى شجى. وكانت قوة الشرطة المرافقة للشيخ فى كل تحركاته مضطربة وحائرة، وحين بدا لشاب من مريدى الشيخ أن يشرح مطلبهم لبعض رجال الشرطة ظهرت على وجوههم آثار استغراب وعدم تصديق وربما بلاهة.

كانت الخلوة الشرعية قد أصبحت موضوعا للعبة أخرى تجرب عبرها السلطة سيطرتها وهيمنتها على “متمردوا الجماعات الإسلامية”، لم تكن قد صدرت بعد فتوى المفتى نصر فريد واصل التى تنص على: “يجوز شرعا اختلاء الزوج السجين بزوجته والزوجة المسجونة بزوجها لممارسة الخلوة الشرعية الخاصة بالزوجين وليس هناك ما يمنع في الشرع ذلك لان العقوبة في الإسلام شخصية لا تتعدى الجاني إلى غيره”. كان أعضاء الجماعات الإسلامية على اختلاف تواجهاتهم قد دخلوا فى جدل معقد حول الخلوة الشرعية: قلبوا متون كتب مذاهب الفقه الأربعة، وشروحها، وحواشيها، ثم اختلفوا، البعض أباحها ورفعها إلى درجة الواجب “كالصلاة والصيام لأنها تحقق الغرض من الارتباط بالزواج وهو بناء أسرة”، والبعض رفضها، وتلقفت السلطة جملة واحدة وتمسكت بها من الجدل الناشب فى كل السجون التى يوجد بها “إسلاميين” والذى تمدد إلى بيوت ومساجد وزايا لا حصر لها:” والأمر في ذلك راجع إلى جهة الإدارة لفعل ما تراه صالحاً للمجتمع من المنع أو الإباحة”.