تشير الساعة إلى السابعة والنصف صباحا في مركز الشرطة بمنطقة قرطاج بالضاحية الشمالية لتونس العاصمة، يدخل رجل في الثلاثينات من عمره ليخط على كراس مدرسي صغير الحجم تكاد صفحاته أن تمتلئ، التاريخ والوقت وإمضاءه ويعود في المساء بعد الساعة السادسة والنصف ليعيد نفس العملية في إجراء مازال يتكرر منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
“مهدي” ذو الواحد والثلاثين سنة، لم يكن يتخيل أن خلافه مع أبيه حول الزواج وتهديده إياه بالذهاب إلى سوريا، سيتحول إلى كابوس يقض مضجعه ويجعله حبيس “المراقبة الإدارية” طيلة أكثر من سنة ونصف.
وتتمثل المراقبة الإدارية في إجبار الشخص المعني على الإقامة بمنطقة معينة تحددها السلطة التنفيذية بعد قضاء مدة الحكم الصادر في حقه وعدم مغادرته من غروب الشمس إلى مشرقها ولا يمكنه أن مغادرة مسكنه أو تغييره إلا بإذن من الإدارة (مركز الشرطة).
في يوم 20 مارس/آذار 2013 غادر “مهدي” منزل والديه بالضاحية الشمالية متجها إلى ليبيا وفي نيته البقاء هناك لأيام مع التهديد بعدم العودة من أجل أن يرضخ الأب لرغبته في الزواج تاركا ورقة كتب عليها “غادرت إلى ليبيا ومنها إلى سوريا ولن أعود، لا تخبروا الشرطة”.
حسب تصريحه لمراسلون لم يكن له من نية سوى المكوث لأيام معدودة في ليبيا يتصل فيها بأبيه ويفرض عليه شروطه لكن الأب توجه مباشرة إلى وزارة الداخلية لإعلامها ليتم على إثرها إيقاف “مهدي” بالنقطة الحدودية “رأس الجدير” (أقصى جنوب تونس) وتوجيهه إلى فرقة مكافحة الإرهاب بالقرجاني بالعاصمة.
لم تسفر أبحاث فرقة القرجاني عن شيء يذكر فـ”مهدي” الملتزم بأداء واجباته الدينية لم يعرف عنه أي تشدد من قبل ولم تكن له علاقات بمجموعات سلفية متشددة كما أنه لم يكن على اتصال بأي شخص في ليبيا، فتم إطلاق سراحه لتتواصل حياته بشكل عادي طيلة سنتين المتتاليتين خاصة بعد موافقة أبيه على زواجه.
ولادة وتفجير
سيبقى يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 راسخا في ذاكرة “مهدي” حيث رافق زوجته إلى إحدى المصحات الخاصة كي تضع مولودهما الأول على الساعة الرابعة مساء.
ولكن هذا التاريخ سيبقى راسخا في تاريخ تونس إذ شهدت قلب العاصمة عملية إرهابية تم فيها تفجير حافلة أعوان الأمن الرئاسي على الساعة الخامسة مساء لتداهم قوات الأمن منزل “مهدي” في الليلة الفاصلة بين 27 و28 نوفمبر 2015 ويتم إيقافه لمدة 12 ساعة ولم يخلى سبيله إلا بعد توقيعه على إعلام بوضعه تحت المراقبة الإدارية كما تم إجباره على عدم مغادرة منزله لمدة شهرين الشيء الذي جعله مهددا بالطرد من وظيفته لولا تزامن هذه الحادثة مع خضوعه لعملية جراحية في الكتف استوجبت راحة بثلاثة أشهر.
عاد “مهدي” مزاولة عمله منذ فيفري/شباط 2016 دون أن يخبر مشغله بما وقع له ولكنه الآن مجبر على الإجابة على كل رقم هاتفي أرضي (هاتف قار) حتى أثناء انهماكه في العمل كي لا تداهم الشرطة مقر عمله ويفتضح أمره كما أصبح يتحاشى حتى دوريات الأمن العادية التي تتثبت من الهويات الشخصية لأنه سيقع إيقافه بطريقة آلية ثم إرساله إلى منطقة الأمن التي يتبعها مقر سكناه ليقضي هناك ساعات من الانتظار إلى حين إطلاق سراحه كما سيعتبر متغيبا عن عمله دون مبرر.
وفي انتظار ما ستسفر عنه القضية التي رفعها منذ ما يقارب السنة لدى المحكمة الإدارية من أجل رفع “المراقبة الإدارية”، يفكر “مهدي” في ضرورة اشتراء كراس مدرسي جديد يملاه بالتواريخ وبإمضاءاته وحتى عند سؤالنا له إن كانت المراقبة الإدارية سترفع قبل اشتراء كراس جديد فقد كانت إجابته قطعية: “لا”.
التوقي الأمني
وعن رأيه في هذا الإجراء يقول أنور أولاد علي المحامي ورئيس مرصد الحقوق والحريات بتونس لـ”مراسلون” إن المراقبة الإدارية هي في الأصل عقوبة تكميلية في الجرائم الخطيرة ولكن مجلة الإجراءات الجزائية تمنح صلاحيات واسعة لوزارة الداخلية مما يجعلها ترتكب عديد الخروقات وتتعسف على حقوق المواطنين خارج أحكام القضاء في إطار ما يسمى بــ”التوقي الأمني”.
ويشترط في الإقامة الجبرية توفير الحد الأدنى من العيش الكريم للشخص الخاضع إلى هذا الإجراء، إلا أن الإخلالات عديدة فالمراقبة الإدارية لا تحدد بمدة ولا يسلم للشخص نسخة من القرار إضافة إلى التجاوزات الأمنية الأخرى التي تزيد سوى من “نقمة المواطن”. هنا يتساءل أنور أولاد علي “هل تونس تكافح الإرهاب أم تصنعه؟”.
سجن المراقبة
“هشام الهرمي” 38 سنة متزوج وساكن بحي شعبي جنوب العاصمة، لم يكن يعلم أن ذهابه إلى تركيا عبر ليبيا في ديسمبر/كانون الأول 2013 من أجل استيراد ثياب وأدباش لبيعها في سوق التجارة الموازية “بومنديل'” بتونس العاصمة سيكلفه الوضع تحت الإقامة الجبرية لمدة شهر بعد حادثة تفجير حافلة الأمن الرئاسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 كما سيجعله حبيس المراقبة الإدارية وغير قادر على استخراج بطاقة “السوابق العدلية” (البطاقة عدد 3) المستوجبة للالتحاق بالوظيفة العمومية.
لقد سافر “هشام” رفقة شريكته التاجرة إلى ليبيا في 03 ديسمبر/كانون الأول 2013 ليعود إلى تونس بعد عشرين يوما إثر إعلامه هاتفيا من طرف عائلته بمداهمة قوات الأمن لمنزله ليلة 19 ديسمبر/كانون الأول 2013 واصطحاب أبيه وأخيه من طرف فرقة مكافحة الإرهاب بالقرجاني للتحقيق معهما حول سفره إلى ليبيا.
وقد اعتقل “هشام” في المعبر الحدودي “رأس الجدير” ثم تم التحقيق معه من طرف فرقة مكافحة الإرهاب بالعاصمة حيث استظهر بكل ما يثبت ذهابه إلى التجارة في تركيا ولم تسفر الأبحاث التي امتدت على مدى أسبوع عن شيء ثم أطلق القضاء سراحه.
وينتظر “هشام” جلسة يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 في المحكمة الإدارية من أجل الطعن في المراقبة الإدارية والإجراء الحدودي وهو الآن يزاول عمله بمقهى يذهب إليه متحاشيا دوريات التثبت من الهوية كي لا يتم إيقافه لمدة ساعات وتعطيله عن عمله في إجراء يسمى “أس 17” أو “استشارة حدودية”.
ويتمثل هذا الإجراء في إيقاف الشخص من قبل شرطة الحدود بغية التثبت لدى وزارة الداخلية من إمكانية خروجه من تونس إلا أن الشخص يبقى موقوفا لساعات ثم يمنع من مغادرة التراب التونسي. كما يمنع الشخص من التنقل بين المناطق الداخلية فعند إيقافه من قبل دوريات الشرطة والحرس المروري يتم إرجاعه إلى مركز الأمن التابع لمقر سكناه وإخضاعه إلى بحث روتيني يتواصل لساعات قبل إخلاء سبيله.
ممنوعون من السفر
ويقول المحامي”أنور أولاد علي” إن هناك نحو 350 مواطن ومواطنة موضوعون تحت الإقامة الجبرية إلا أنه يضيف بأن الخاضعين إلى الإجراء الحدودي “أس 17” مثل “هشام الهرمي” يصل عددهم إلى المائة ألف حسب إحصائيات مرصد الحقوق والحريات.
ويضيف “أولاد علي” أن هذا الإجراء غير دستوري وغير مذكور في المجلة الجزائية كما أن المنع يجب أن يكون صادرا عن سلطة قضائية لكن “هؤلاء الأشخاص هم أشبه باللاجئين في بلدهم إذ لا يحق لهم معرفة أسباب معاقبتهم ولا يتمتعون بحقوقهم المدنية الأخرى”.
وعقب جمال مسلم رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قائلا إن مائة ألف هو رقم غير مؤكد رغم أن الخاضعين إلى “أس 17” يعدون بالآلاف من أجل أسباب تتكتم وزارة الداخلية عن أغلبها كما أنها لا تطبق أحكام القضاء في رفع إجراءات المراقبة الإدارية والإجراء الحدودي وعلق “مسلم” حول حالة “هشام الهرمي” متسائلا “متى وكيف سيرفع هذا الإجراء عنه وعن غيره ممن لا يستحقونه؟”.