لدى زيارتنا للمنطقة الصناعية ل “الطرف”، لاحظنا أنه لم يطرأ عليها أي تغيير يذكر، أكوام من ركام الردوم على حواف الطرقات المهترئة و مساحات غزتها الحشائش اليابسة و الأشواك، حتى أن قسما من المنطقة احتلته عائلات من البدو الرحل الذين قصدوا قسنطينة بمواشيهم و إبلهم بحثا عن الكلأ و هروبا من حرارة الطقس في ولايات الجنوب الصحراوية و نصبوا خيامهم من الوبر داخلها. إذ يقتصر النشاط في هذه المنطقة الصناعية على عدد قليل من الوحدات الإنتاجية وورشات لصناعات تحويلية نذكر منها مركب التبغ و الكبريت و هو مؤسسة عمومية و وحدة خاصة لصناعة الأدوية و أخرى لصناعة مبيدات الحشرات و بعض حظائر مواد البناء، بالإضافة إلى فضاءات تخزين على مساحات شاسعة تكدس فيها كبريتات الصوديوم الآتية من منجم قريب قبل نقلها حيث سكة الحديد أين يتم شحنها بالقطار نحو مناطق استغلالها في ولايات أخرى.
على العكس من وضعية منطقة “الطرف” يجتهد أعوان مؤسسة التسيير العقاري في تنظيف شوارع و طرقات المنطقتين الصناعيتين بالما و 24 فيفري 1956 في الضاحية الجنوبية الشرقية لمدينة قسنطينة أين يتواجد مركب مؤسسة صيدال العمومية و عدد من الوحدات الخاصة لصناعة الأدوية وعدد من وكلاء بيع السيارات، حيث يقومون بصورة دورية بعمليات نزع الحشائش و جمع القمامة التي ترمى على قارعة الطريق. و لا يكاد الوضع يختلف كثيرا فيما يتعلق بمثل هذه السلوكات غير الحضارية في منطقة عيسى بن حميدة ببلدية ديدوش مراد أين تتواجد وحدات للصناعات الغذائية و مصنع للتبغ يديره أجانب و مصنع للآجر، فالنشاط و الحركية في هذه المنطقة أكبر مما هو عليه في منطقة “الطرف”، وهذا رغم الفارق في المساحة بين المنطقتين اللتين كانت السلطات المحلية قد وضعت برنامجا لتوسعتهما بإضافة 151 هكتار لمنطقة الطرف و 87 هكتار لمنطقة بن حميدة و كذا 13 هكتارا في إطار مشروع توسعة منطقة النشاطات بالمدينة الجديدة علي منجلي الواقعة على بعد 20 كيلومترا جنوب مدينة قسنطينة، متوسطة بلديتي الخروب و عين السمارة.
بعض المناطق الصناعية لا تزال أرضا جرداء
بالفعل، تتوفر قسنطينة على إثني عشرة منطقة صناعية و منطقة نشاطات موزعة عبر بلديات الولاية بمساحة إجمالية تبلغ 2340 هكتارا، يتم حاليا ،حسب مصدر مسؤول بمؤسسة التسيير العقاري التي تشرف على إدارة المناطق الصناعية، استغلال حوالي ألف هكتار منها في أربع مناطق صناعية كبيرة منها اثنتان بمدينة قسنطينة (بالما و 24 فيفري) و الطرف ببلدية ابن باديس و المنطقة الصناعية بديدوش مراد. و كذا منطقتي النشاط المختصتين في الصناعات الميكانيكية بكل من عين السمارة مساحتها 250 هكتارا التي تحتضن مركب عتاد و آلات الأشغال العمومية و مركب إنتاج العربات العسكرية الذي دخل حيز الخدمة مؤخرا في شراكة تجمع وزارة الدفاع الوطني، صندوق الاستثمار الإماراتي “أعبار” المكانيكي الألماني “رينميتال” بالإضافة إلى مركب واد حميميم بالخروب أين يتم تصنيع الجرارات الزراعية من علامة “ماسي فيرغيسون” الأمريكية على مساحة إجمالية قدرها 150 هكتارا. كما حظيت قسنطينة على أساس موقعها الجغرافي المتميز كهمزة وصل بين موانئ عنابة و سكيكدة و جيجل و المناطق الداخلية في الهضاب العليا الشرقية بمشاريع ثلاث حظائر صناعية كبرى في إطار مخطط وطني للتنمية تقرر إنجازها في كل من الدوامس ببلدية عين عبيد شرقا على مساحة إجمالية قدرها 543 هكتارا و سيدي رمان في بلدية عين السمارة غربا مساحتها 140 هكتارا و ديدوش مراد شمال الولاية التي تبلغ مساحتها 238 هكتارا. وإذ لا تزال الدراسة الخاصة بالحظيرة الصناعية الثالثة لم تنطلق بعد، يمكن لهاته الحظائر الثلاث أن تسع حوالي ثمانية آلاف مشروع، وفق تصريحات يزيد كوتشوكالي، المسؤول الجهوي للوكالة الوطنية للوساطة و الضبط العقاري “أنيراف” التي صارت تتولى مهمة تهيئة المناطق و الحظائر الصناعية.
و لكن بالرغم من وفرة العقار الصناعي نظريا في قسنطينة، فإن عددا قليلا من أصحاب المشاريع تمكنوا من تنفيذ مشاريعهم و الانطلاق في الإنتاج. فبقدر ما تتوفر عليه هذه الولاية على مساحات معتبرة من الأوعية العقارية الموجهة للاستثمارات بمختلف أنواعها، بقدر ما يشكل سوء استغلال المناطق الصناعية و مناطق النشاطات عائقا أمام المتعاملين الاقتصاديين في سبيل تطوير نشاطاتهم. فأكثر من نصف الأوعية العقارية المتوفرة اليوم هي عبارة عن أراضي جرداء يستعملها المستفيدون منها من أجل إقامة وحدات صناعية كفضاءات للتخزين، بل إن بعضهم لا يترددون في تأجير القطع الأرضية الممنوحة لهم كمساحات تخزين. و يرجع البعض منهم السبب إلى غياب المرافق و البنية التحتية الضرورية لنشاطاتهم كصاحب وحدة إنتاج مواد البناء بمنطقة الطرف في بلدية بن باديس على الضاحية الشرقية لمدينة الخروب والذي رفض أن يذكر اسمه في المقال و الذي أشار “أن غياب التهيئة و الشبكات المختلفة في جزء من المنطقة يجعله غير متحمس لتوسيع نطاق نشاطه“، ملمحا إلى الحيلة التي لجأ إليها مستفيدون مثله من قطع أرضية بالمنطقة ذاتها والذين قاموا بتأجير المساحات التي حصلوا عليها بغرض إنجاز مشاريع صناعية مختلفة لأصحاب مؤسسات أخرى تتواجد خارج ولاية قسنطينة و جعلها مناطق تخزين و مواقع ركن للمركبات و الآليات مقابل مبالغ مهمة جعلتهم يستفيدون من ريع الحصول على عقارات مخصصة للاستثمار دون مباشرة المشاريع التي من أجلها منحت لهم تلك العقارات. أضاف محدثنا “أن الوعود بتحسين وضعية المنطقة الصناعية الطرف بقيت منذ عقود مجرد كلام يتلفظ به المسؤولون المتعاقبون و الهيئات المختلفة التي تولت تسيير المنطقة في المناسبات“. وإذ اعتبر مدير الصناعة و المناجم لولاية قسنطينة، بشير صحراوي، في تصريح صحفي الحركية الاقتصادية الحالية في الولاية “مشجعة“، مبرزا عدد المستفيدين من العقارات، اشتكى مسؤول محلي بكونفدرالية أرباب العمل من “بطء دراسة ملفات المستثمرين من طرف الجهات المختصة” والتي تعتبر موافقتها على مشاريعهم بمثابة التذكرة التي تمنح لهم امتياز استغلال هذه العقارات.
حال المناطق الصناعية وتسيير العقار الصناعي في قسنطينة شبيهة بما هي علية في عديد المدن الأخرى. وكان من شأن استغلال القدرات التي تحوز عليها ولاية قسنطينة كشبكة الطرقات إذ يجتازها الطريق السيار شرق-غرب الذي يصلها عبر ستة منافذ على الجهتين الجنوبية و الشرقية لمدينة قسنطينة و يربطها بمينائي سكيكدة و عنابة و مدن الهضاب العليا و عبرها حتى الجنوب الكبير أن يجعل منها قطبا اقتصاديا و تجاريا بارزا. إلا أن عدم فعالية الإدارة المحلية في تفعيل الاستثمار مازال يحول دون ذلك.