“غادرنا بيتنا ومدينتنا بسبب كرة القدم” هذا ما قالته عواطف (26 عاماً) لـ”مراسلون” هاتفياً حين طلبنا موعداً لمقابلتها، وحين التقيناها أوضحت أنها غادرت وعائلتها مدينة سرت أثناء سيطرة تنظيم داعش عليها في يناير 2016، بسبب كون زوجها لاعب كرة قدم وبحسب فكر داعش فإن لعب الكرة حرام.

تزوجت عواطف في عام 2012 بمحمد صالح (36 عاماً) من سرت وهو لاعب ومدرب كرة قدم، وبدأت حياتها هناك بعد فترة وجيزة من سقوط نظام القذافي، ولكن في ظل سيطرة داعش استحال عليهم البقاء، حيث من يمارس مهنة زوجها في نظرهم “كافر ويجوز قتله”، وقد طالبوه في أكثر من مرة أن يترك لعب الكرة، حتى زاره زملاؤه في اللعبة وأخبروه بأن الأمر صار جدياً وبأن عليه المغادرة، “قبل أن نغادر قاموا باعتقال اثنين من أصدقائه اللاعبين، وقد علمنا بعد مغادرتنا أنه قد تمت تصفيتهما”.

تقول عواطف وهي والدة لطفلين ومثقلة بالحمل في شهرها السابع “ربما لن نتمكن من العودة لبيتنا في سرت، عانينا عامين من النزوح في سبها (جنوب ليبيا) والآن أنا أزور أهلي في البيضاء (شرق ليبيا)، ولا أعرف أين ستحط بنا الرحال أخيراً” تقول هذا بصوت أتعبته المسافات فيما يقف ابناها الصغيران بجانب الباب يراقبان بصمت.

مدينة منكوبة

تدمرت سرت عام 2011 بسبب كونها المعقل الأخير للقذافي وأعوانه، واستمر فيها القتال حتى 2012 ما تسبب في خراب ودمار كبيرين، بعد انتهاء المعارك وحين انتقلت عواطف للعيش في المدينة تقول إنها “كانت تتعافى، وكان أكثر ما يقلق الأهالي وجود غرباء عن المدينة من الثوار (الذين أسقطوا نظام القذافي) يستوقفون السكان عند مرورهم بنقاط التفتيش، واستمر الوضع يضايقنا حتى انتهى بخروجهم، وتسليم المدينة لأهلها بعد مفاوضات بين أعيان مدينتي سرت ومصراتة”.

ولكن عودة المدينة لأهلها لم تكن نهاية المطاف، حيث استقر الوضع في المدينة لبعض الوقت حتى بدأت تظهر مجموعات مسلحة من سكان سرت يرفعون رايات أنصار الشريعة، وكانوا يحرسون  بيوت ومرافق المدينة التي تعرضت للنهب والسطو، تقول عواطف إن “وجودهم ملأ الفراغ الأمني، وبذلك حصلوا على تأييد الناس”.

وتدريجياً قاموا بإدخال مقاتلي داعش لسرت، “كنا نراهم في الشوارع ونقاط التفتيش يتكلمون بلهجة تونسية ومصرية وتشادية، والتقيت زوجات بعضهم في العيادات ولم يكنَّ ليبيات” تقول عواطف.

بدايةً قام هؤلاء المسلحون بمنع رجال الجيش والأمن والشرطة من ممارسة أعمالهم، وأغلقوا المقاهي “لأنها كانت تعرض وتقدم محرمات كمبارايات كرة القدم والشيشة، كما أغلقوا محلات بيع التبغ واعتقلوا بائعيه، وفرضوا على النساء اللباس الشرعي المتمثل في عباءة فضفاضة سوداء، وخمار يغطي كامل الوجه وقفازات سوداء تغطي اليدين” تقول عواطف.

ومن يخالف التعليمات – حسب عواطف – يتم اصطحابه إلى “دار الحكمة” لتوقيع تعهد بعدم فعل ما ينافي تعاليم داعش، وفرضوا الاستتابة على كل البالغين من الذكور من سكان المدينة والالتحاق بدورة مدتها أسبوعان تحمل كل أفكارهم، ويُعد المتخرج منها منتسباً للتنظيم بشكل رسمي، ولم يكن لدى أحد في المدينة القدرة على مواجهتهم حتى أحكموا سيطرتهم نهاية 2015، “أصبح خروجنا حتمياً من هذه المدينة المنكوبة” تقول عواطف.

تقصير رسمي

بسبب الخطر الذي كان يتربص بحياة محمد اضطرت العائلة لترك المدينة وبدء رحلة النزوح التي تصفها عواطف بـ”المتعبة” ورافقتهم فيها أخت زوجها، وكان الخيار الأول هو التوجه جنوباً نحو سبها، تروي عواطف “بعد عددٍ كبيرٍ من نقاط التفتيش لداعش سلكنا الطريق البري إلى سبها، قضينا أسبوعين في ضيافة أخوال زوجي، ومن ثم انتقلنا لمنزل بالإيجار بالكاد يسعنا”.

كان إيجار المنزل الذي استأجرته العائلة مرتفعاً، ففي عام 2016 استقبلت سبها أعداداً كبيرة من النازحين عن سرت وارتفعت أسعار الخدمات فيها، وهو ما دفع عواطف للشكوى من الوضع المتأزم مادياً الذي وجدوا أنفسهم فيه “نحن لم نتقاضَ بدل إيجار ولا مساعدات تليق بأوضاعنا، وحتى مشاكلنا في سحب مرتباتنا من المصارف لم يتم تنظيمها، كان يضطر زوجي للسفر لطرابلس لسحب مبلغ مالي بسيط بالكاد يسد احتياجات أطفالي الأساسية”.

ضاعفت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها ليبيا من معاناة النازحين، حيث اضطر محمد في إحدى المرات – حسب كلام زوجته – للمبيت ثلاثة أيام أمام المصرف بطرابلس حتى حصل على المال وعاد به إلى سبها، ولم يبقَ من ممتلكات العائلة سوى سيارتهم التي ساعدت محمد في العمل كسائق ليعيل أطفاله، “في كثير من الأحيان كان يستدين ليوفر احتياجاتنا، وفي آخر الأمر اضطر لبيع سيارته لتسديد ما عليه من ديون” تقول عواطف.

مخاوف من نزوح جديد

انتهى القتال في مدينة سرت بإعلان قوات البنيان المرصوص تحريرها في ديسمبر 2016 لكن كثيراً من أهالي سرت لم يعودوا بعد لبيوتهم، ومثل باقي أهل المدينة عادت عواطف وعائلتها إلى سرت بعد إعلان تحريرها من داعش لتفقد منزلهم تقول “وجدنا جزءاً من شقتنا قد تعرض للهدم بفعل قذيفة، كما تمت سرقة آلات المطبخ الكهربائية واسطوانة غاز الطبخ”.

كانت عواطف تنوي البقاء في سرت ولكن المدينة بلا ماء ولا كهرباء بسبب تعرض المحطة البخارية للسرقة ومعظم بيوتها تعرضت للهدم أو للنهب مثلها مثل كثير من المباني الحكومية والمدارس التي تم سرقة كل ما فيها، كما أن هناك مخاوف كبيرة لدى الأهالي من اندلاع القتال مجدداً.

تؤكد المنظمة الدولية للهجرة الثمن الباهظ الذي دفعه سكان مدينة سرت بنزوحهم مرتين منذ انطلاق الثورة، فبحسب بيانات مصفوفة تتبع النازحين داخلياً في تقرير المنظمة الصادر في مارس 2017 فإن عدد النازحين في الفترة من 2011 – 2017 بلغ 256 الف و 615 شخصاً، من بينهم 12 ألف و 198 نازحاً تعرض للنزوح مرتين أو أكثر، وشكل نازحو مدينة سرت 92% ممن تعرضوا للنزوح المتكرر وأغلبهم قد نزحوا مرتين على الأقل.

وعود لم تنفذ

وقد عجزت السلطات ومنظمات المجتمع المدني الليبية عن احتواء ما عاناه النازحون، الأمر الذي دفع منظمة هيومن رايتس وواتش لمطالبة السلطات الليبية والمانحين الأجانب بإعطاء الأولوية لليبيين المتأثرين بالقتال، كما دعت الأمم المتحدة في ديسمبر 2016 إلى ضرورة تقديم مساعدات لليبيا بقيمة 166 مليون دولار، ولكن ذلك لم يتحقق.

حيث أشارت المنظمة في تقريرها السنوي 2016 إلى أن المساعدات الإنسانية الداخلية نادرة في ليبيا بسبب القتال والحكومة المنقسمة، كما أن مغادرة أغلب منظمات الإغاثة الدولية بسبب تدهور الوضع الأمني أثر بشكل كبير.

ظاهرياً يبدو أن الحياة عادت بشكل جيد للمدينة إلا أن جيران عواطف وبعض من تعرفهم أخبروها بأنهم متخوفون من أي طاريء قد يتسبب في خروجهم من جديد، وأن حاجياتهم لا تزال على حالها استعداداً لأي نزوح مفاجئ.