لم يحاول خالد حسن – اسم مستعار- البحث حول تجربة أمه، ولا دفعته ملامحها القوقازية التي ورث بعض جيناتها للاهتمام بتاريخ الحرب البوسنية. يعلم خالد أن أمه بوسنية مسلمة جاءت إلى مصر في نهاية عام 1992، وتزوجت أباه في فبراير 1993، وأن عينيه وعيني أخته الصغرى الزرقاوين تنحدران من جينات الأم الخمسينية المنتقبة، التي لا تزال تتعثر أثناء الحديث باللغة العربية وإن تعلّمت التواصل بها خلال 25 عامًا قضتها بقرية تابعة للمحلة الكبرى، بمحافظة الغربية.
من غرب البوسنة إلى شمال مصر؟
الأخت الصغرى ولاء –اسم مستعار- كانت أكثر فضولًا للتعرف على ما مرت به أمها. قرّبتها الأم منها عبر الحكايات عن “كوسيرين” قريتها البوسنية التي اضطرت للانتقال منها هربًا مع أخريات من نفس عمرها حينذاك -22 عامًا- تجاه الجنوب، صوب قرية أخرى اسمها “كليك”، ومنها عبر البحر اتجهوا إلى إيطاليا، وعلى عكس الرحلات من هذا النوع التي تذهب من مصر إلى إيطاليا الأن، كانت رحلتها إلى مصر، في قارب صيد يحمل 30 فتاة في مطلع العشرينات، تركوا عائلاتهن بحثًا عن حياة آمنة في مصر، كانت الخيارات ساعتها ما بين مصر وسوريا وقبرص، هجرات شرعية وغير شرعية، مع وعود بتيسير الحياة في تلك البلدان، جاءت “لاريسا” التي ستسمى ابتسام بالعربية، إلى دمياط وفيها استقبلها مع رفيقاتها سيدات مسلمات، أقمن على تيسير إقامتهن وتوفير مسكن ملائم، انتقلن بعدها إلى المنصورة ثم إلى طنطا.
تجاوز حاجز اللغة..
ظل التعامل بين البوسنيات والمصريات بالإشارة أو بقليل من الإنجليزية يعرفها بعض من الفريقين، حتى جاءت “أمينة” الثلاثينية البوسنية التي درست اللغة العربية بالقاهرة قبل اندلاع الحرب، وأقامت بها بعدما تزوجت، كانوا يرتبون لقاءاتهن بجمعية تابعة للجمعية الشرعية، في طنطا وبدأت “أمينة” في تقديم دروس اللغة العربية للفتيات النازحات واللاجئات.
خلال أقل من عام كان يجري التنسيق بين عدد من أئمة وخطباء المساجد، لترشيح أزواج ملتزمين صالحين في شبه حملة لتستير الأخوات البوسنيات، كانت عملية شرعية تبغي مرضاة الله، بحسب تعبير مصطفى الجندي، أحد منسقي تلك الحملة في بداية التسعينات.
إمام المسجد وليًا للأمر
يتابع الجندي، كان للشيوخ حينها نظرة فيمن يختارونه زوجًا لبوسنية هاربة من حياة قاسية، فكانوا باعتبارهم ولاة أمر في مناطقهم، يختارون الليّن ذا الدين، وكانوا يعطون الأولوية للشباب غير المتزوج، وحدث أن تقدم أحدهم لشيخ كبير بالمحلة سنسميه “سعيد” يطلب المشاركة في تستير الأخوات إلا أن الشيخ لقنه درسًا عبر مكبرات الصوت أمام المصلين داخل المسجد، كانوا لديهم إدراك أن الاخوات البوسنيات في مثل ظروفهن يصبحن مطمعًا، زيجة غير مكلفة “مقطوعة من شجرة” وسترضى بالقليل، لذا كانوا يراعون الله في اختيار الأزواج، ويضيف لم تكن سوقًا للرقيق كما حدث مع الأخوات السوريات مؤخرًا.
يضيف الجندي “بالطبع بائت بعض الزيجات بالفشل؛ صعوبات التواصل بين الزوجين، أو رغبة الزوجة البوسنية في العودة لزيارة بلدها بعد انتهاء الحرب، وحتى لسوء الأحوال الاقتصادية بعد ذلك، سعى الشيخ سعيد في تطبيق أبغض الحلال قبيل وفاته، كان يعتبر نفسه مسؤولًا عن كل فتاة سعى في تزويجها أو تستيرها، زوجها لشاب افترض فيه حسن الخلق والصلاح إلا أنه لم يراع الله فيها، سعى في تطليقها بنفسه وألحقها بالعمل في عيادة طبية حتى استقر الوضع في البوسنة وعادت لها”.
الحياة بين ثقافتين
أثناء لقائي بالأبناء كان الشاب أكثر تحفظًا من أخته، يبدو متبرمًا من التصريح عن تجربته كابن لزواج مختلط بين أم بوسنية لاجئة وأب مصري، فيما كانت الأخت أكثر انفتاحا وتقديرًا للأم والأب، وتفاخرًا بتجربة نادرة في مصر، تقول ولاء حسن، الابنة الصغرى، إنه كان يمكن أن تظل أمها بإيطاليا وألا تأتي لمصر، إلا أن مخاوف من صعوبة الحياة في بلد مسيحي دفعتها للنزوح إلى مصر، ولم تخفها اختلاف اللغات في النهاية هي بلد مسلمة وستجد أرضًا مشتركة هنا.
لولا عمّاتها المصريات كان يمكن أن تتحدث مثل والدتها بعربية مكسّرة، إلا أنها أيضًا واعية بكونها محظوظة لتحمل جينات متنوعة، وتملك فرجة تطل على ثقافتين، تملك شعر أسود وعيون زرقاء وملامح شبه أوروبية، يمكنها أيضًا تسمية بعض الأشياء بالبوسنية، وقد تتعلمها يومًا، ترى ولاء أن أمها أيضًا كانت محظوظة، بالطبع واجهت ظروفًا قاسية في بداية حياتها إلا أن أباها كان يقدم لها العون والدعم، أبوها كان مدرس لغة إنجليزية، يملك أرضًا زراعية وتجارة محدودة ولم يتعامل مع أمها كجارية كما سمعت عن تجارب مشابهة، أدت أمها فريضة الحج منذ 4 أعوام، وعادت الحاجة أم خالد، بوسنية تتحدث العربية بتلعثم إلا أنها تقرأ القرآن بشكل جيد، طباخة ماهرة تجيد عمل أحسن بقلاوة، بحسب ابنتها، وتطهو اللحوم بطرق لم تعرفها عماتها المصريات، تقول ولاء بفخر إنها تعرف عددًا من وصفات الطعام البوسني كما تعرف الأكلات المصرية، وتفضل الطعام البوسني باللحوم المشوية والمعجنات، تتابع ولاء إن أباها توفي منذ عامين، إلا أن أم خالد تعرف كيف تدير الأمور، يساعدها الأعمام في إدارة ممتلكاتها وميراثها بنزاهة حسب وصية أخيهم قبل وفاته.