الوطنية أو الفخر القومي بالتعريف الاصطلاحي هي الولاء لأمة معينة ، والشخص الوطني هو الشخص المُحب لبلاده ، والذي يدعم سلطتها ويصون مصالحها. بينما الدراما لفظة إغريقية تعني “العمل” ، وتطلق على النصوص الأدبية التي يتمّ تمثيلها وتُقدم في التليفزيون، السينما، المسرح أو الإذاعة ، وقد تعودنا على إطلاق لفظ الدراما على المسلسلات ، إذًا فالوصف الصحيح والمُعبر عن ” الدراما الوطنية ”  المقصودة في هذا الموضوع ليس الدراما ولا الوطنية ، بل  مسلسلات من ملفات المخابرات.

***

ست سنوات مرت على الثورة، وخمس على إنتاج آخر المسلسلات من ملفات المخابرات المصرية. لكن هذا العام عُرض مسلسل الزيبق، مع الوصف الأشهر: من ملف المخابرات المصرية. جاء ليكرر التيمة القديمة نفسها. شاب، يلعب دوره كريم عبد العزيز، يتم تجنيده ليزرع في إسرائيل، ويبدأ في نقل المعلومات للمخابرات المصرية. تتدخل الأخيرة، عادة، في تفاصيل العمل. بداية من رغبة الجهة السيادية في إنتاج مسلسل من الأساس، ثم اختيار الملف نفسه. واختيار الكاتب الذي سيكتب السيناريو، في حالة صالح مرسي –رائد هذا النوع من الأعمال-  كما تُقدم مساعدات مختلفة، سواء عبر تقديم معلومات كانت سرية، وقد قررت المخابرات كشفها بشكل درامي، أو السماح بتصوير في أماكن محددة. وتمتلك الجهات السيادية القدرة على منع عرض أو تصوير مسلسلات وأفلام لأنها تمس صورتها بشكل أو بآخر.

قبل بداية شهر رمضان الماضي، تلقت الشركة المنتجة لمسلسل “الظاهر”، خطابًا من هيئة الرقابة على المصنفات الفنية يُخطرها بالتالي: “إيقاف المسلسل وسحب ترخيصه وعدم بثه نهائيًا بأي صورة، بناءً على أوامر من جهة سيادية، مما يُعد ظرفًا قهريًا”. وكان المسلسل مقررًا عرضه خلال موسم رمضان 2017، وقد تمّ تصوير 20 حلقة منه.

البداية مبشرة

تبدأ رحلة مسلسلات المخابرات أو الدراما الوطنية في بداية الثمانينيات. كان الجمهور على موعد مع إبداع الثنائي صالح مرسي كاتبًا ويحيي العلمي مخرجًا في صناعة “دموع في عيون وقحة” بطولة عادل إمام (1980).

كانت الروح الوطنية في طريقها للاهتزاز بعد مرور سبع سنوات على انتصار حرب أكتوبر 1973 ومع بداية تطبيق سياسات الانفتاح والضغوط الاقتصادية التي صارت تثقل كاهل رجل الشارع، والذي كان في حاجة لبطل شعبي مُخلِّص. كان “جمعة الشوّان” أو “أحمد الهوّان”، وهو اسم الشخصية الحقيقية  بمثابة البطل الذي ينتظره رجل الشارع.

من خلال أربعة عشر حلقة مدة الواحدة منها مائة دقيقة، استطاع فريق العمل جذب الجماهير نحو القصة الحقيقية المقدمة جيدًا، ليتعاطف المُشاهدين مع الحلقات على خلفية موسيقية من تأليف عمار الشريعي،  ويحقق العمل نجاحًا كبيرًا ليؤسس لنوع جديد من الدراما تلاه بعدها العديد من الأعمال .

***

يقوم اتحاد الإذاعة و التليفزيون / الجهة الحكومية المُنتِّجة باستثمار نجاح  عملها الأول عن الجاسوسية، ليقوم الثنائي مرسي والعلمي بصناعة الجزء الأول من مسلسل “رأفت الهجان” 1987، والذي كان مقررًا له أن يقوم ببطولته عادل إمام أيضًا. لكن بطل “دموع في عيون وقحة” كان قد طلب تغييرات كبيرة في السيناريو أدت إلى إسناد البطولة إلى الفنان الراحل محمود عبد العزيز بدلًا منه. ومع النجاح الكبير الذي فاق كل التوقعات، تمّ انتاج الجزئَين الثاني والثالث  ليكتمل عرض الملحمة المخابراتية العسكرية حتى منتصف التسعينيات. حققت متابعة ضخمة وشراء عدد كبير من القنوات العربية لحقوق عرضها.  وحقق المسلسل إيرادات غير مسبوقة، وبالرغم من تقارير إسرائيلية تزعم بأن ” رفعت الجمّال ” الشخصية الحقيقية لبطل المسلسل كان عميلاً مزدوجًا، إلا أن رأفت الهجان سيظل محفورًا في ذاكرة ووجدان الشعوب العربية، تستدعيه الذاكرة كلما دارت موسيقى عمار الشريعي الشهيرة ، الخاصة بالعمل.

وكان رفعت سليمان علي الجمال، الشخصية المستوحى منه العمل الدرامي، يحب التمثيل، وقد لعب أدوارًا في ثلاثة أفلام مصرية قبل أن يتوّرط في العمل مع المخابرات. وقد تزوج من ألمانية في العام 1963، وانجبا ولدًا وحيدًا، وسماه دانيال.

وقد توفى الجمال بمستشفى بالقرب من فرانكفورت في العام 1982، وذلك بعد معاناة مع سرطان الرئة، وقد حضر جنازته 150 شخصًا.

محاولات لاستثمار نجاح البدايات

توالت بعد ذلك الأعمال من منتصف التسعينيات إلى الآن ، ما يفوق عشرة أعمال درامية ترتكز على قصص حقيقية من واقع ملفات المخابرات المصرية.

لم يحقق أي منها النجاح المنتظر، كان أولها “السقوط في بئر سبع “(1994) للنجمين سعيد صالح وإسعاد يونس ، كتابة عبد الرحمن فهمي وإخراج نور الدمرداش ، والذي توفى أثناء تصوير المسلسل. وتلاه، في العام التالي “الحفار” قصة صالح مرسي وإخراج وفيق وجدي (1995) بطولة النجم حسين فهمي، ثم “وادي فيران” (1999) بطولة جمال عبد الناصر والقصة للكاتب عبده مباشر والإخراج لعلاء كريم ، و”حلقت الطيور نحو الشرق ” بطولة فتحي عبد الوهاب، تأليف مختار عز الدين وإخراج هاني إسماعيل (2002)، “العميل 1001″ بطولة مصطفى شعبان ونيللي كريم ، قصة نبيل فاروق وإخراج شيرين عادل (2005) ، ” حرب الجواسيس” (2009) والذي حقق رواجًا نسبيًا مقارنة بما سبقه من مسلسلات، وقد اعتمد على تألق بطلته منة شلبي، والتي جسدت قصة كتبها صالح مرسي، والتي تتناول -للمرة الأولى- قصة حياة جاسوسة وليس جاسوسًا.

كما أن ذلك النجاح النسبي عززته  مغامرة خوض الموسم الرمضاني بمسلسل “مخابراتي”، بل و تحقيق نسب مشاهدة جيدة.

لكن في 2011 يعاود المنحنى هبوطه مع “عابد كرمان” المأخوذ عن رواية “كنتُ صديقاً لديّان” لماهر عبد الحميد، وكان عميلاً سابقاً لجهاز المخابرات المصرية داخل إسرائيل لمدة ثلاث سنوات، ثم عمل بالجهاز وصار لواءً. المسلسل كتبه بشير الديك ومن إخراج نادر جلال، وبالرغم من جرأة المنتج هشام شعبان بالتصدي لإنتاج هذا النوع من الأعمال، والذي كانت غالبًا ما تنتجه الدولة ممثلة في قطاع الإنتاج / إتحاد الإذاعة والتليفزيون / مدينة الانتاج الإعلامي لما يتطلبه من ميزانية ضخمة، إلا أن حظ العمل الذي جَسَدَ بطولته تيم حسن، لم يكن بأفضل الأحوال. لم يكن أحد يتوقع قيام الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير، وأن الأوضاع ستنقلب  لدرجة ميلاد شعور جديد بالوطنية في الشارع.

تخلي مبارك عن الحكم وقتها منح الشباب شعورًا – وقتيًا بانتصار صنّعوه بأياديهم، وولاءً وانتماءً حقيقيًا لبلد ظنّوا أنها عادت إليهم، وليست مجرد مشاهد في مسلسل رمضاني.

كانت الدراما على الأرض ، والشهداء في الميدان، والأحداث تتوالى والأيام تمر، لينال المسلسل المخابراتي الرمضاني في العام الذي يليه حظًا قد يكون أسوأ من “عابد كرمان”، فيتجاهل المُشاهدون مسلسل “الصفعة” (2012) تأليف أحمد عبد الفتاح وإخراج مجدي أبو عميرة، والذي كان من انتاج شركة ” سينرجي” (تامر مرسي)، بينما كانت البطولة لشريف منير وهيثم أحمد ذكي.

قبل الثورة كانت شركة الانتاج الأخيرة قد قدمت عدة تجارب لم تحقق نجاحًا كبيرًا، فيما تتجه حاليًا لاحتكار معظم الأعمال الدرامية طوال العام. فقد قَدَمَت الشركة تسعة مسلسلات من أصل ثلاثين عُرضت على الشاشات خلال موسم رمضان 2017.  فيما يتردد بين العاملين في مجال انتاج الدراما أن مرسي صار يحظى بمزايا وتسهيلات لا ينالها أحد غيره من المنتجين سواء من مدينة الإنتاج الإعلامي أو تسهيلات في التصوير، وهو ما قد يرتبط بتحّمسه لانتاج الدراما المستوحاة من ملفات المخابرات العامة المصرية.

العالم يتغير والذائقة أيضًا 

 عُرض هذا العام مسلسل “الزيبق” من ملفات المخابرات المصرية، بعد ست سنوات من الثورة، وخمس من آخر عمل درامي من هذا النوع.  مع تكرار التيمة القديمة، في العمل الجديد، مثل معظم مسلسلات “الملفات السيادية”. الشاب الذي يتم تجنيده وتدريبه لزرعه داخل إسرائيل، ثم ينقل المعلومات ويهدد عدة مرات بالكشف أو الفشل حتى تنجح مهمته في النهاية. لكن المشاهد لم يعد يقبل على مثل تلك النوعية، خاصة في ظل التنوع الدرامي الكبير في رمضان. فيما يميل المشاهدون لمتابعة أعمال اجتماعية قريبة من واقعهم أو كوميدية تجعلهم ينسون الواقع بالضحك.

وإذا تغاضينا عن كون مسلسل مثل رأفت الهجان مثلا كان يُعرض وحده تمامًا والكل يشاهده في ميعاد يومي ثابت ، فإن المقارنة أساسًا  ظالمة سواء بين محمود عبد العزيز وكريم عبد العزيز أو بين الثنائي صالح مرسي ويحيي العلمي من جهة ووليد يوسف وأحمد عبد الله من جهة أخرى.

كما أن الثَقل الأكبر الذي يرجح كفة الميزان للمسلسل القديم هو التغيير الذي طال كل شيء. العالم نفسه تغيّر، الذائقة تغيّرت، الإحساس بالأشياء صار مختلفًا. الوطني المُحب لبلاده لم يعد يجد البلاد التي عرف، لا السلطة هي السلطة ، ولا مصلحة الوطن واضحة كما كانت أو كما كانوا يخبرونه بها.

 

تصوير: صبري خالد