دائمًا كان هناك حرص على زرع هذه الفكرة في أذهاننا: أن الوطن يجب أن يحيا، وإن ذلك قد يكون ثمنه موت المواطنين. كانت الأغاني والأفلام وكتب المدرسة والرسوم التي تكسو جدران المدارس. كل هذا يحتفي بموت الناس المحتمل، حتى وإن كانوا صغارًا في طريقهم إلى المدرسة من أجل أن تعيش البلد.

كانت البلد بالنسبة لنّا شوارع وبيوت ورمال وبحر، ولكن لم يخبرنا أحد كيف يموت الوطن، لكننا عرفنا ما يجب أن يحدث لمَنَّعَ حدوث هذا الأمر السيء.

مصر دولة قديمة؛ تاريخ تأسيسها موغل في القدم لدرجة أن لا أحد يهتم بمعرفة تاريخ حدوث ذلك. التحدّث عن البلد بهذا الشكل أمر محبب بالنسبة للمصريين، وبالتأكيد لواضعي التاريخ الرسمي والممثلين الحكوميين. إذا حاولت البحث عن تاريخ محدد لبداية تشكل الدولة، قد لا تجد إلا خليطًا يجمع المعلومات ومشاعر الفخر. وإذا توجه الواحد للإنترنت بسؤاله عن مولد الوطن فإن إجابة جوجل قد تكون محددة بتاريخ تأسيس الجمهورية، في يوليو 1953. وهو ما يعني أن عمر مصر لا يتجاوز 64 عامًا. لكن المصريون قد يرفضوا أن يكون عَمر بلدهم محددًا بتأسس الجمهورية. التاريخ الرسمي يُرجع تأسيس الدولة إلى ما يزيد عن خمسة آلاف عامًا.

متى ولدت مصر؟

أسست مملكة وادي النيل، وعاصمتها منف حوالي 3100 قبل الميلاد، وملكها مينا، الذي وحَدَ مملكتي الشمال والجنوب البدائيتين لتصبحا دولة واحدة وبدأ عصر الكتابة بالهيروغليفية. لكن الدولة، بمفهومها المعاصر، لم تؤسس إلا بعد ذلك بكثير. في مسألة تأسيس مصر تسيطر العاطفة على التاريخ. لا نجد تاريخًا محددًا لنشوء هذه العلاقة. ربما تكشف لنا طبيعة علاقة مصر ببقية دول العالم معلومات وتصوّرًأ أكثر دقة بشأن نشأتها.

من جانبها ترجع وزارة الخارجية المصرية، على موقعها الإلكتروني، تأسس الدبلوماسية المصرية لفترة ما قبل الميلاد، وبالتحديد 1258، حينما تمّ توقيع أول معاهدة سلام رسمية مكتوبة في تاريخ البشرية بين المصري رمسيس الثاني وحاتوسيلي الثالث ملك الحيثيين. وقد نُقشت على لوح من الفضة وعلقت على أحد جدران معبد الكرنك بالأقصر.

بينما كان أول تأسيس لجهة إدارية تعمل على رعاية مصالح البلاد مع الأجانب خلال فترة تولي محمد علي (1769-1849)  للبلاد، أُسس ديوانًا “للأمور الإفرنكية”، لمتابعة تجارة ومعاملات الأجانب، ثم صار الديوان واحدًا من أربعة دواوين أساسية في حكم الباشا وتحدد دور الدبلوماسية المصرية، خلال هذه الفترة، في منع تجارة الرقيق، ومتابعة المعاهدات الدولية والمطابع الأوروبية والمحلية كذلك.

حسنًا يمكننا أن نعتبر مصر مكانًا شغله المصريون في وقت مبكر، وأسسوا حضارة تجسدت في وضع لغة وتأسيس الأهرامات والمعابد ونظام حكم الفراعنة. لكن هذا الكيان لم يتطوّر ليصير دولة قومية، بالمعني المعاصر، إلا بعد إرهاصات تشكيل ولاية عثمانية خصها محمد علي لحكم أولاده، عبر تاريخ من الموالاة والمعارضة للباب العالي.

فيما بعد سيتسع دور هذا الديوان، ومعه شكل الدولة، ليتحوّل إلى “نظارة” في 1878، ثم تولاها بطرس غالي في الفترة 1894 إلى 1910. لكن مع بدء الحرب العالمية الأولى 1914 خسرت مصر سيادتها، ولم تأسس الخارجية إلا في 1922 وقت حصول مصر على استقلال شكلي. وقتها بدأ التفكير في عمل دبلوماسية بشكل حقيقي وإيفاد الوزارة لمبعوثيين دبلوماسيين إلى الخارج.

مَن هو المواطن؟

يحدد القانون المواطن بأنه مَن كان يعيش في مصر قبل دخول تركيا في الحرب العالمية الأولى، 5 نوفمبر/ تشرين ثان 1914. بالتزامن مع دخول الدولة العثمانية في الحرب في مواجهة بريطانيا، فرضت الأخيرة الحماية على مصر. لتكون دولة تتولى الأولى تأمين مواصلاتها ومصالحها داخل مصر، وتقوم بحمايتها من أي تدخل خارجي.. هكذا ولدت الجنسية المصرية في ظل أحكام الإمبراطورية البريطانية العرفية ورقابتها المشددة على الصحف.

خلال سنوات سيستمر المصريون في خوض حراك صعب مع الاحتلال، حتى تتشكل دولتهم. بعد عام من توقيع مصر لمعاهدة 1936 مع بريطانيا ستتمكن الأولى من دخول عُصبة الأمم. في حين سيستمر الاحتلال البريطاني حتى توقيع اتفاقية الجلاء في أكتوبر 1954، بعد عام من تأسيس الجمهورية، بينما سيستمر تواجد الجنود البريطانيين حتى أكتوبر 1956.

مع وحدة مصر وسوريا في 1958 صدر قانون جديد للجنسية، وهو القانون رقم391 لسنة 1958. وسنجد أنه يحدد الجنسية لمَن يولد بالإقليم المصري من الجمهورية، وذلك حتى لا يصير السوريون مصريين. وقد استمرت الجمهورية العربية المتحدة، رغم انسحاب سوريا منها في 1961.

كما يحدد القانون أن الحنسية تكون على أساس الميلاد أو الإقامة أو الأصل المصري وقد استمرت الأسباب نفسها التي يصبح الإنسان فيها مصريًا في القانون الصادر برقم  26 لسنة 1975. ليكون المصري مَن يتوطن في البلاد قبل 5 نوفمبر/ تشرين ثان 1914، دون أن يكونوا رعايا لدول أجنبية، ويكونوا كذلك محافظين على إقامتهم في البلد. وتكون إقامة الأصول (الخاصة بالعائلة) مكملة لإقامة الفروع، والزوج تكمل إقامته إقامة زوجته.

موتٌ من طرف واحد

كنّا في المرحلة الإبتدائية، ولم نكن قد تجاوزنا السبع سنوات. أذكر كيف كنّا نقطف ورودًا حمراء من حديقة المدرسة في يوم 9 مارس، لأنه “يوم الشهيد”، لنحملها في جيوب قمصاننا.

كان درس القراءة في كتاب المدرسة يحدّثنا عن مقتل عبد المنعم رياض (1919-1969) في هذا اليوم. قُتل بعد استهدافه وسط وحدة مشاة من قوات الجيش بجبهة القتال، وذلك قبل أكثر من ثلاثين عامًا.

خارج الكتاب المدرسي لم يكن أحد يحمل ورود حمراء في هذا اليوم. لكن الدرس استمر، ومؤخرًا عاد يوم الشهيد ليكون احتفالًا رسميًا، خاصة مع تزايد العلميات الإرهابية في شمال سيناء.

كأن قدر المصري أن يكون مُحبًا للوطن ومُستعدًا للموت حتى يعيش الأخير. دون توضيح ما هي حياة الأوطان. الحماس لهذه الحياة لم ينقطع أبدًا، ولدينا العديد من الأغاني تؤكد على وجود حياة للوطن.

قبل يناير/ كانون ثانٍ 2011 كانت نسبة كبيرة من المصريين منسحبة من الحياة السياسية. كان العمل السياسي، مطروحًا كفكرة، تنظيرات جادة وناقدة على مدونات الإنترنت، بينما الاشتباك الحقيقي كانت مساحته محدودة، مظاهرات قليلة يسمح بها، وقبضة أمنية تنكل بأي احتجاج ممكن. انتهاكات مستمرة من جانب الشرطة لحقوق المواطنين، فيما لم تتطوّر ما رُصد من انتهاكات ليكون مواجهة قضائية بدلًا من أن تنتهي برصدها على المدونات أو منظمات المجتمع المدني المدافعة عن الحقوق دون أن تجرؤ الصحافة على نشرها.

قبل ست سنوات تحوّل المستبعدون من الحياة السياسية والمنسحبون من المجال العام إلى صنّاعه. لتتسع المساحة الضيقة المطالبة بتحقق المواطنة وحماية حقوق الإنسان عبر احتجاجات واسعة. قُوض الوضع القائم، خلال سنوات حكم حسني مبارك الأخيرة لصالح وضع جديد يتسع فيه دور الإنسان المصري ليلعب دورًا أكبر من الحب والموت من أجل الوطن.

تشكلت علاقة جديدة خلال السنوات الماضية، قُتل ناس وهم يطالبون بالتغيير، وحُبس آخرون بينما كانوا يتظاهرون ضد قتل الأوائل. قُيد المجال العام بعد الإطاحة برئيسَيْن خلال عامين، حسني مبارك، وبعده محمد مرسي. أمرٌ لم يحدث إلا حينما أطاح ضباط الجيش بالملك فاروق الأول (1920- 1965). سَعَى الضباط، وقتها، لانهاء الاحتلال البريطاني، وسط موجة من التحرر الوطني إلا أن ما حَرَكَ المصريون في 2011، ثم 2013 كان السعي لتأسيس مواطنة مقابل التصوّر القديم للوطنية.

طالبوا بالمواطنة عبر مسيرات أفضت إلى مقتل أعداد من المشاركين السلميين.  فُتح الكلام لأول مرة في مجالات نقاش بجرأة جديدة على مجتمع اعتاد تكريس الوطنية كمرادف للتضحية أو الموت.

مع عودة المواطن المُنسحب/ المُستبعد، قبل الثورة، ليُعيد صناعة المجال العام وعلاقته بالبلاد كُتب دستور جديد، بجمعية تأسيسية محسوبة على حُكم الإخوان المسلمين. وبعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، وتشكيل لجنة تعدّيل الدستور، صدر الدستور المعدّل في 2014، وقد نَصّ على حقوق جديدة تؤسس لمواطنة أكبر من مفهوم الوطنية القديم. لم يُفعل الدستور بشكلٍ كافٍ.

رغم ما حققه حراك السنوات الماضية على مستوى النَصّ إلا أن القوانين السارية لا تزال تدور في فلك الدولة القديمة. لكن سرعان ما تمّ ابعاد الدور الفاعل للمواطن سواء عبر الحرب على الإرهاب أو التضييق على التظاهر والحق في الاحتجاج وفرض قيود على التعبير بشكل عام.

إذا تأمّلنا مفهوم المواطنة حسب المنهج دليل القضايا العالمية الصادر عن مركز تطوير المناهج التابع لوزارة التربية والتعليم سنجد أنها:  “تعني باختصار حب الوطن، واعتباره جزءًا منّا، وسرًا من أسرار حياتنا. فهو الروح، وهو الدماء التي تجري في العروق، فإذا أسأنا إليه أو تهاونا في حقه لن تعد لنا قيمة، ولم يكن لنا وجود”.

قد تكون أحداث وصراعات السنوات الماضية قد فرضت تصورًا جديدًا للمواطنة، في الدستور، وطريقة تفكير المصريين، وساهمت في هزّ مفهوم الدولة عن سطوتها على سكانها إلا أن الطريق نحو المواطنة بقدر أنفاس المواطنين، خاصة أن الموت لا يزال- مع الأسف- مرادفًا للوطنية.

 

تصوير: صبري خالد