في قرية زغدود الواقعة في محافظة القيروان (وسط البلاد) فرض وجود العين في منحدر جبل عين الكاف الشهيرة، على الأهالي استخدام الحمير والبغال لنقل المياه من المرتفعات والنزول بها في اتجاه المنحدرات والمسالك الملتوية والأودية وغابات كروم التين الشوكي والصبار والصنوبر.
تمنع هناك المسالك الوعرة وصول الشاحنات والدراجات، ما يجعل مهمة جلب ماء الشرب من العين مهمة عسيرة وشاقة، بينما توحي قوافل الوافدين على العين من مختلف المناطق الريفية المجاورة على ظهور الحمير والبغال، بأن تلك المنطقة النائية تعيش خارج سياق التاريخ.
ترسل الأمهات أبنائهن إلى العين لجلب الماء بينهم أطفال لم يتجاوزوا الرابعة عشر، وتدور أحيانا بين هؤلاء الصبية خصومات حول ملء الماي في الحاويات التي يحملونها على ظهور أحمرتهم لتتحول مهمتهم إلى عمل شاق يزيد شقاءها فرار الحمير أو دفعهم للسير دون توقف بالمرتفعات.
في العادة يتم نقل المياه بواسطة حاويات سعتها 20 لترا في كل سفرة على ظهر الأحمرة التي توضع على ظهرها “بردعة” وهي عبارة عن كيسين كبيرين مصنوعين من نسيج مادة الحلفاء توضعان على جانبي ظهر الحمار لوضع الحاويات داخلهما قبل ربطهما بالحبال حتى لا تسقط على الأرض.
العين المقدسة
يقدر عدد سكان قرية زغدود بنحو خمسة آلاف ساكن، وهذه العين هي موردهم الوحيد لشرب الماء أو الغسيل. يأتي الناس أفواجا لجلب الماء على الدواب من مناطق مجاورة تعاني من شح المياه ويبعد أقربها مسافة نحو عشر كيلومترات، وتكون العودة أحيانا على الأقدام بسبب ثقل الحمولة.
تعتبر الحمير في هذه المنطقة الريفية الوعرة وسيلة تنقل لا يضاهيها شيء آخر. وقد يصل سعر الحمار الواحد إلى ألف دينار (400 دولار) بينما يبلغ ثمن الحمار الصغير (الجحش) 300 دينار (130 دولار) وذلك نتيجة تزايد الإقبال المتزايد على هذا الحيوان الذي يقاوم عناء السفر لجلب الماء.
ويعتمد أهالي قرية زغدود لشرب الماء على عين الكاف الجبلية التي يتدفق منها الماء من ماسورة معدنية باتجاه حوض واسع بات مليئا بالأوحال بسبب اختلاط الماء بالتربة ونتيجة توافد الأهالي بحميرهم وبغالهم بذلك المكان مما يؤدي إلى تلوث الحوض وتعكر مياه العين الجبلية.
تجتمع النساء بشكل كبير في الصباح قرب العين ويجلب بعضهن أمتعة لغسلها قرب العين لتجنب متاعب التنقل، بينما تجلب أخريات صوف الخرفان لغسله فتتحول العين إلى ميدان للغسيل تتخلله بعض خصومات النسوة تارة وحلقات نقاش تارة أخرى حول أوضاع القرية التي يرتفع فيها الفقر والنزوح.
يتناقل أهالي قرية زغدود فيما بينهم أساطير عن جدهم الأول “زغدود” الذي يعتبرونه وليا صالحا تفجرت من تحت قدميه تلك العين المقدسة بفضل كرماته بحسب رواياتهم. ولذلك أقاموا له ضريحا تقام فيه الولائم وحفلات الختان وشيدوا بجواره مسجدا لا يزال بلا ماء حنفيات شأنه شأن المدرسة الوحيدة في تلك الربوع.
لكن شباب تلك المنطقة سرعان ما يتجاهلون نشوة الأسطورة عندما يضطر بعضهم لجلب كميات كبيرة من الماء بطرق بدائية إذا تعلق الأمر بحفل زفاف أو بناء مسكن، في وقت تعاني فيه منطقتهم من غياب شبكات توزيع المياه الحكومية رغم المطالب المتكررة منذ عقود طويلة.
وظروف حصول الأهالي زغدود على الماء رغم صعوبتها تعد أفضل حالا من أوضاع أهالي قرية وادي القصب المجاورة والتي تعاني أيضا من ندرة المياه. وفي هذه القرية تجلب النساء المياه على الأقدام في طوابير طويلة من عين جارية تنساب على سطح الأرض بين الحجارة والتراب والأوحال.
وبسبب انقطاع توزيع المياه من إحدى الجمعيات التنموية لجأت مئات العائلات جراء العطش إلى استهلاك مياه العين رغم أنها لا تخضع للرقابة الصحية. وقد تسبب ذلك في بعض الأحيان إلى بروز مرض التهاب الكبد نتيجة المياه الملوثة، لكن ذلك لم يصد الأهالي عن استهلاك مياه العين.
موسم العطش
بالرغم من أن محافظة القيروان كانت منطقة غنية بموائدها المائية وسدودها وتزود حتى محافظات كبرى مجاورة مثل صفاقس والمهدية وسوسة والمنستير، إلا أن معضلة نقص الأمطار وانخفاض منسوب السدود جعل مخزونها المائي يتراجع وجعل عديد مناطقها تشكو من الجفاف وانقطاع المياه.
ويجلب فصل الصيف المخاوف إلى سكان عديد المناطق الريفية في محافظة القيروان من انتشار الجفاف والعطش. ويفضي نقص الماء وانقطاعه سنويا إلى احتجاجات وغلق طريق ونداءات استغاثة تنتهي بالتدخل الأمني والسجن في حين تخير مناطق أخرى المعاناة في صمت.
وتتمثل خطة السلط المحلية لمكافحة العطش بتوفير خزانات ماء مجرورة يتم اكتراؤها لتزويد التجمعات السكانية. وهذه عملية ليست منتظمة ولا تصل إلى جميع القرى مثل قرية زغدود أو قرية وادي القصب وقرى أخرى كثيرة.
ومع ارتفاع درجات الحرارة تعلو أصوات سكان المدن منددة بالانقطاع المتكرر لمياه الشرب التي توفرها الشركة الحكومية لتوزيع واستغلال المياه. لكن الإدارة تبرر هذا الانقطاع بتنامي الاستهلاك ووجود قرى نائية في مرتفعات عالية.
لكن رضوان الفطناسي رئيس فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادي والاجتماعي بالقيروان يحذر من تصاعد وتيرة الاحتجاجات بسبب تواصل غياب الماء الصالح للشرب ومخاطر التجاء المواطن إلى مصادر بديلة للماء غير صحية.
ويقول لمراسلون “على الحكومة أن تتحمل مسؤوليتها في تقليص معاناة الناس من العطش ومن متاعب جلب المياه ومخاطر تلوثه”، مشيرا إلى ارتفاع الإصابات بمرض الالتهاب الفيروسي الكبدي الناتج عن تلوث المياه.