أجواء الحشد لبناء سد النهضة الأثيوبي لا تزال مستمرة منذ وضع حجر أساسه في أبريل/ نيسان 2011 حتى الآن.

تنامى الحماس في دولة التي ينبع النيل منها بينما كانت مصر غارقة في شهرها الثاني بعد الإطاحة بحكم حسني مبارك (أكتوبر/تشرين أول 1981- فبراير/شباط 2011)، كانت مصر تحت حكم مجلس عسكري بينما يبحث الثوار عن طريقة حكم جديدة. 

استمر حماس الشعب الأثيوبي لإنجاز سده. هدفت الحكومة لسحب أموال من جيوب المواطنين لتنفيذ المشروع الذي صار حلمًا يشغل كل أثيوبي. بينما كان المصريين يجربون المسار الديمقراطي الذي كان مرتبطًا بتعطيل العمل بالدستور، دون كتابة آخر جديد، لصالح إعلانات دستورية تتسم بروح محافظة وتمنح صلاحيات كبيرة للمؤسسات العسكرية ثم الدينية. لم يصدر الدستور المصري إلا في 2013 وعُدّل في 2014، بعد الإطاحة بحكم أول رئيس منتخب بعد الثورة.

وفي الوقت نفسه داخل أثيوبيا جُمعتْ أموال من المواطنين. استًقطعت نسب ثابتة من رواتب الموظفين في الدولة، وعرضت سندات مالية في البنوك للعملاء لتوفير الأموال لتشييد هذا السد. دعت الحكومة رجال الأعمال المُقيمين خارج البلاد للاستثمار في بناء “النهضة”. هُجر أكثر من خمسة آلاف مواطن لتأسيس بحيرة لتخرين المياه خلف السد. بينما كان المصريون يلبون دعوة رئيسهم عبد الفتاح السيسي، في يونيو/ تموز 2014، بعد أيام من توليه الحكم، للتبرع إلى صندوق تحيا مصر.

كما أعلن السيسي، في أغسطس/ آب 2014، عن مشروع شق مجرى ملاحي لتوسعة قناة السويس، وقد دعا المواطنين لتمويله عبر شراء شهادات استثمار في البنوك المصرية الحكومية. افتُتح المجرى الجديد في أغسطس/ آب 2015، بينما تستمر عملية بناء سد النهضة من أموال الأثيوبيين على مياه النهر.

 

ما يتبرع به المصري والأثيوبي كذلك

استمرت دعوات الرئيس السيسي للمصريين للتبرع لمشروعات أخرى بعد توسعة المجرى الملاحي بين البحرين الأحمر والمتوسط بينما السد الذي يبنى في الجنوب كان يتسبب في ترحيل الفلاحين الأثيوبيين الفقراء من قراهم في “بني أشقول” لتؤسس بحيرة تخزن فيها المياه التي كان يفترض بها التحرك نحو مصر والسودان.

وقد رددت الدعاية الحكومية الأثيوبية عبارات عن “الفخر” الذي ملأ المكان مع توالي زيارات المسؤولين الحكوميين إلى هذه المناطق الفقيرة.  تقع أثيوبيا في أقصى غرب القرن الأفريقي، المنطقة المُطلة على رأس مضيق باب المندب بين المحيط الهندي والبحر الأحمر. وتتلاقى حدود الدولة التي تتحدث الأمهرية من ناحية الغرب مع حدود السودان ( من جهة شمال غرب) وجنوب السودان (في الغرب) وكينيا (ناحية الجنوب الغربي). وداخل أراضيها ينبع النهر من بحيرة فيكتوريا ويمتد إلى “جنوب السودان”، ثم “السودان”، فمصر، وتتخوف الأخيرة من تأثير هذا السد على حصتها المائية من مياه الشرب والزراعة، خاصة في حال البدء بملء بحيرة تخزينه. يصل عمق هذه البحيرة 140 مترًا، وتصل سعتها التخزينية القصوى إلى 74 مليار متر مكعب.

تختلف تسميات النهر الممتد من وسط أفريقيا إلى شمالها حتى المتوسط، يسمى في أثيويبا: نيل فيكتوريا، ثم “ألبرت”، وفي السودان يُسمى “بحر الجبل”، وينقسم بعد ذلك إلى فرعين رئيسيين الأبيض والأزرق، ويندمجا معًا في السودان ليصيرا نهرًا واحدًا يدخل إلى مصر من الجنوب. بينما تتسع دول حوض هذا النهر لتشمل أحدي عشرة دولة  هي: أوغندا، والكونجو الديمقراطية، وتنزانيا، ورواند، وبروندي، وإريتريا، وكينيا، وأثيوبيا، والسودان، ومصر، وجنوب السودان.

 

حقوق مصرية يؤيدها السودان وحده

قبل الثورة المصرية و الإعلان عن مشروع السد الأثيوبي كانت مصر قد جمدت عضويتها في مجموعة دول حوض النيل، وذلك بعدما وقعت دول المنبع اتفاقية الإطار القانوني والمؤسسي والمُسماة نسبة إلى مدينة “عنتيبي” الأوغندية في مايو/ أيار 2010.

كان اعتراض مصر على توقيع دول المنبع على الاتفاقية بدلًا من الاتفاقيات التاريخية القديمة والتي تمنح دولتي المصب، مصر والسودان، حصصًا مائية مميزة، تبلغ 55.5 مليار متر مكعب لصالح مصر وما يزيد عن 18.5  مليار للسودان.

يمكننا تلخيص هذا الاعتراض المصري في الرغبة بحماية الحصص المائية والإخطار المسبق عند تأسيس أي مشروعات تتعلق بالأمن المائي لدول النيل و أن تكون الموافقة بالإجماع وليست بالأغلبية. كما كانت الاتفاقيات القديمة، ومنها اتفاقية 1929 والتي وقعتها مصر مع بريطانيا ممثلة  عن كلٍ من السودان وكينيا وتنزانيا وأوغندا. وتسمح هذه الاتفاقية لمصر بحق يشبه “الفيتو” ضد أي مشروع يمس حصتها المائية.

من ناحية أخرى تتمسك الحكومة السودانية، مثل مثيلتها المصرية، برفض الاتفاقية إلا أن تأمّل مقالات الرأي لبعض الكُتّاب السودانيين يدعو بشكل واضح أن تكون مفاوضات الرئيس عمر البشير حول موقف بلاده من هذه الاتفاقية مرتبطًا بملف الخلاف المصري السوداني حول السيادة على مثلث حلايب وأبو الرماد وشلاتين.

وكانت مصر قد أبلغت الأطراف الدولية المانحة، بالتزامن مع رفضها التوقيع على الاتفاقية، بمخالفة “عنتيبي” للقانون الدولي والتنبيه على هذه الأطراف بعدم قانونية تمويل أي مشروع مائي سواء على مجرى النيل أو منابعه بشكل يؤثر على الأمن المائي، وهو ما دفع الحكومة الأثيوبية للحشد للتبرع المحلي لمشروع السد.

وقد شهدت مراحل بناء السد الأثيوبي دعاية تتوجه إلى المواطن الأثيوبي في الشارع، خاصة أنها  من أكبر الدول الأفريقية من حيث تعداد السكان، ويزيد عددهم عن 82 مليون مواطن.

عُلقت صور لرئيس الوزراء الأثيوبي السابق ملس زيناوي، الذي شغل المنصب منذ 1995 حتى وفاته 2012، مع سد النهضة وسبائك الذهب ودولارات وميزان. وقد اعتمدت الدعاية على ربط الذهب والدولارات بالميزان للتأكيد على وصولهما للجميع في إشارة إلى ميزان العدل.

لا تتوافر الكهرباء بالنسبة لجميع الأثيوبيين، رغم وجود أربعة سدود توّلد الطاقة الكهربية، إلا أن الآمال لا تزال معقودة على أن يساهم “النهضة” في تحقيق طفرة عبر توليد طاقة كهربية نظيفة.

تأمّل ما نشر في الصحافة عن سد النهضة خلال السنوات الست الماضية يكشف عن عدة نقاط تشابه بين “الحماس الأثيوبي” وما كان يحدث في مصر قبل أكثر من 60 عامًا حينما بدأ العمل في بناء السد العالي 1960، والذي لم يفتتح إلا بعد ذلك بعشر سنوات.

 

كيف يُبني مجد الشعوب؟

كان البناء عبر أجواء حماسية. رددت الأغاني، وأدار جمال عبد الناصر (1918-1970) تأسيسه لسد يمنع فيضان النيل، ويحفاظ على حقوق مصر المائية التاريخية بوصفها معركة ضد قوى الاستعمار. رغم أن هذه الحقوق توفرت لمصر بدعم من قوى الاستعمار في الأصل، خلال أواخر القرن التاسع عشر. لكن ناصر تمكن من الترويج للمشروع بسبب رفض صندوق النقد الدولي تمويل المشروع، وتأميم قناة السويس وحرب 1956.

بالعودة لأغنية حكاية شعب (كلمات أحمد شفيق كامل، تلحين كمال الطويل، وغناء عبد الحليم حافظ 1960) سنجد سردًا لتصوّر ناصر لمسألة بناء السد بوصفها حكاية كفاح المصريين ضد الاحتلال البريطاني والتي اختتمت بالانتصار بفضل الرئيس المصري، حسب كلمات الأغنية.

تبدأ الأغنية بجملة تمتدح المصريين لأنهم بنوا السد العالي، ثم تتوالى كلماتها لتختم بجملة: “ضربة كانت من معلم خلت الاستعمار يسلم”، وكان يقصد بالمعلم جمال عبد الناصر. فيما تتجسد الأغنية المصرية في الجنوب، ولا يملك المصريون إلا متابعة أخبار السد الأثيوبي بينما يتشكل واقع جديد يقلل من مياه الشرب والزراعة.

 كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد وقع اتفاق مبادئ مع نظيريه السوداني والأثيوبي، بالخرطوم في مارس/ أذار 2015. هذا الاتفاق من شأنه التغاضي عن الحقوق التاريخية لدولتَي المصب عبر الاستخدام المنصف والمناسب للمياه، لكنه يقر بأن تكون قواعد الملء الأول لسد النهضة بشكل استرشادي بين الدول الثلاث.

رغم أن اتفاق المبادئ قلل من المخاوف المصرية من “ضربة المعلم الأثيوبي” إلا إن ذلك لم يدُم مع ما تردد، مؤخرًا، عن نية أثيوبيا البدء في تخزين المياه بالتزامن مع موسم الفيضان خلال يوليو/ تموز من هذا العام.