طفلة تمسك بدمية وطفل يلهو بلعبة وخرائط للطرق وحيوانات منها الثيران والودان والغزلان والنعام واللاما، ومشاهد للقنص والصيد ونقوش بحروف التيفيناغ لابتهالات وأدعية وطلاسم وأساطير، هي جزء من كنوز تعود لما قبل التاريخ، لازال أغلبها مدفوناً تحت الرمال، اكتشفها الباحث في اللغة الليبية القديمة واللغة الفرعونية أوفنايت الكوني، عندما كان في جولة لتفقد قطيع إبله في “وادي البقر” شمال منطقة إدري (950 كم جنوب طرابلس).

اكتشاف بالصدفة

الصدفة وحدها قادت الكوني قبل حوالي عشرين عاماً لاختيار مكان دافئ لحماية الحوار الصغيرة من البرد الشديد، “وبينما كنت جالساً” يقول الكوني “لفت انتباهي نقش صخري قادني إلى آخر، وأصابتني الدهشة لوجود كم هائل من النقوش المتناثرة والمتنوعة التي لم أرَ مثيلاً لها في ليبيا، وخوفاً عليها من التخريب أبقيت أمرها سراً إلى حين حضور بعثات علمية متخصصة لتوثيقها”.

يتابع الكوني “بعد فترة علمت أن مكان الاكتشاف مكتظ بزوار جاؤوا لمشاهدة السيول التي انتشرت في الوادي، وحقيقة انتابني الخوف من أن يحدث لهذه النقوش مثلما حدث لرسومات ما قبل التاريخ بجبال الأكاكوس”، فقرر زيارة المكان للاطمئنان وقبل وصوله تعطلت السيارة، فأكمل الطريق سيراً، و رغم طول المسافة يقول “سعدت عندما وجدته كما تركته”.

بعد هذه الحادثة توجه الكوني مباشرةً لإبلاغ مكتب آثار الجنوب بمدينة جرمه، لأجل الإسراع بتوثيق الاكتشاف ودراسته وكشف أسراره، وبعد محاولات متكررة تم تسجيله وإعلام الشرطة السياحية بمحتوياته دون أن يتكبد أحد عناء الاهتمام بدراسته، “ربما يكون عدم الاهتمام سببه نقص الخبرات وغياب الإمكانيات” يبرر الكوني.

تجاهل ممنهج

مجدداً وعند الحديث عن أي اكتشاف مهم في ليبيا يطرأ سؤال: هل فعلاً عدم الاهتمام بهذا الموقع رغم أهميتة سببه انعدام الخبرات وقلة الإمكانيات كما يرى المكتشف، أم يعود للتجاهل الممنهج من النظام السابق للحضارات الليبية القديمة؟.

عالم التاريخ الإنجليزي ديفيد ماتينغلي أجاب عن تساؤل مشابه حول تجاهل اكتشافات حضارة الجرمنت “غير العادية” كما وصفها في مقال نشر في صحيفة الدراسات الليبية التاريخية، “تلك الاكتشافات المذهلة كلها انتهت على مكتب القذافي، الذي لم يكن يبدي أي اهتمام بهذه الحضارة لدرجة عدم ذكرها في المناهج التعليمية خلال عهده على الإطلاق” يقول ماتنغلي وإذ يتأسف على هذا الوضع يعبرعن أمله في أن يتغير.

ولكن هل تغير الوضع؟، يرد عادل فارينه المتحدث الرسمي للهيئة العامة للسياحة على تساؤل “مراسلون” بقوله “هناك خطط للتعريف بالمعالم السياحية من خلال المطبوعات والملصقات وإحياء المناسبات السياحية، سيتم تنفيذها عند اعتماد ميزانية الهيئة وتوفر الأمن في المناطق المستهدفة، أما الحماية فهي من اختصاص مصلحة الآثار التي تتبع وزارة الثقافة”.

مؤشرات تقدم

الكاتب والرسام رضوان أبوشويشة المتخصص في الفن الصخري والمهتم برسوم ما قبل التاريخ يقول “إن رسوم وادي البقر محيرة جداً من ناحية معانيها الغامضة فلوحة الطفلة والدمية مقارنة بما في كتب الباحث في تاريخ وجماليات رسوم الأكاكوس فابريشو موري هي لوحة نادرة ومهمة المغزى”، فهي حسب أبو شويشة تشير إلى مدى التقدم الحضاري لشعب ذلك الزمن “إن الرسوم التي تظهر ألعاب الأطفال هي من الأمور المفرحة”، وكما يبدو فإن الفنان الذي نفذها وضع في الحسبان عامل الشمس حيث لا تسقط عليها أشعتها مباشرة إلا عند الأصيل.

إشارات أخرى على تقدم الحضارة التي سكنت المنطقة يوردها أبو شويشة من ضمنها أنه إلى جانب النقوش توجد إشارات غامضة تحدد مسارات الطرق وأماكن المياه، “ومثل هذه اللوحة التي تدل على خريطة للطرق أو اتجاه مصادر المياه هي خطوة متقدمة جداً تحتاج إلى دراسة”.

يقول موري إن الليبيين هم أول من كتب التاريخ بالفن، “أي أن الرسوم والنقوش الصخرية ليست شعائرية فقط بل شملت أيضاً خرائط تحدد الاتجاه للسالكين”، وحسب أبوشويشة “فإن الأسلوب التجريبي الجرمنتي هو أول أسلوب تجريبي في الفن التشكيلي، وليس كما يقال في أكاديميات الفنون الحديثة”، وهذا يدفعه إلى الاعتقاد بأن الفن الصخري يمتد إلى أبعد مدى من الأكاكوس ومتخندوش، “واكتشاف أوفنايت المذهل يعزز ما أردده دائماً وبفخر أن ليبيا هي مهد الفن التشكيلي في العالم” على حد تعبيره.

هنا فقط!

ومن الملفت للنظر حسب أبو شويشة تداخل بعض الأدوار المختلفة مع نقوش التيفيناغ، “والذي شد انتباهي ما قاله أوفنايت أن اسم الجمل يكتب بالتفيناغ “ⵍⵎ” وهذان الحرفان ينطقان (ل م)، والاسم موجود في أمريكا اللاتينية فكيف ظهر في الصحراء الكبرى؟”، يتابع أبو شويشة “عند اكتشاف نقش أقرب ما يكون لحيوان اللاما في هذا الوادي أصبحنا نفكر كيف نربط الاسم والنقش بما هو موجود في أمريكا اللاتينية، ومن المعروف أن اللاما تحتاج إلى كميات هائلة من الأعشاب ما يدفعنا للاعتقاد أن هذه الأرض كانت خصبة في مرحلة غابرة من الزمن”.

وفي نفس السياق يقول الكوني إن نقوش اللاما في وادي البقر غير موجودة في منطقة الأكاكوس، كما هناك نقش يصور إنساناً بذيل يعزز ما ذكره المصريون القدماء عن تميز الإنسان الليبي القديم بوضع الريشة على الرأس واستخدام مايشبه الذيل، وهذه الصورة لم تكتشف في أي مكان آخر في ليبيا، “فهل هذا يدل على الاختلاف بين سكان منطقة الشاطىء وسكان الأكاكوس وامساكات؟، أم هو اختلاف في المراحل التاريخية؟ لأن مثل هذه النقوش غير موجودة إلا هنا”.

تفسير الاسم

أما عن وجود لوحات تصور الثيران يقول الكوني إنه من خلال اهتمامه ودراسته لتاريخ المنطقة ومعاني أسماء المناطق، وإعادة قراءة ما كتبه عنها الرحالة والمؤرخون مثل هيرودوت وبليني، فهو يعتقد أن كلمة “الجرمنتيس” (اسم الحضارة التي سكنت منطقة جرمة بجنوب ليبيا) ليست كلمة واحدة بل مركبة من ثلاث كلمات هي (أزجر – من – يت) وحرف السين الأخيرة هي يونانية زائدة على الكلمة الأصلية.

وبحذف السين فإن اسم الجرمنتيس أصله “أزجر” وتعني فحل الثور رمز القوة، “من” وهي الروح أو الملك، “يت” وهي تانيت الإلهة الليبية، ليصبح معنى الاسم “الثور روح المعبودة الليبية القديمة”، وبالإضافة إلى ذلك فإن حرف الزين في أبجدية التيفيناغ يرمز له بنقش يشبه الشخص الفارد يديه وقدميه، وهو الحرف الأول من اسم “ازجر” الذي نقش فوق الثور وتحته وهو رمز القوة لأزجر، وهذا التفسير حسب الكوني “يدعونا إلى إعادة دراسة نقوش ورسوم الصحراء الكبرى من جديد”.

مر عقدان من الزمن على هذا الاكتشاف الذي قد يطرح أسئلة جديدة حول تاريخ ليبيا القديم، ويعطي أدلة توثقية على فترات الاستيطان البشري للصحراء الكبرى، نقوش ورسومات تركها فنانو العصور الغابرة تصور لنا بعضاً من مشاهد حياتهم اليومية حكوها بالرسم والنقش، ورغم أهمية مثل هذه الشواهد التي لا زال أغلبها مدفوناً تحت الرمال لم تلقَ الاهتمام، وتُركت معرضةً للسرقة والتدمير وعوامل التعرية وتأثيرات المناخ، فمن يحمي آثار ليبيا ومن يدرسها ويفك رموزها؟، أسئلة كثيرة نضيفها إلى تساؤلات الكوني خبير المنطقة الذي في جعبته الكثير مما لم يبح به عن كنوز الصحراء خوفاً عليها من السرقة والدمار.

 

تصوير/ إده ابراهيم الكوني