رفعت إسرائيل السرية عن وثائق تخص حرب يونيو 1967 بمناسبة الذكرى الخمسين لحرب يونيو/ حزيران 1967. وقد وصل عدد الوثائق المتاحة للاطلاع إلى 150 ألف صفحة تتنوع بين أوراق وتسجيلات وشهادت.

كشفت الوثائق طبيعة النقاشات المطروحة داخل مجلس الوزراء الإسرائيلي، قبل خمسين عامًا، خلال الأيام الستة للحرب العربية الإسرائيلية. أشارت الترجمات المتاحة عن طبيعة هذه النقاشات إلى تداول الوزراء الإسرائيلين لمستقبل فلسطين المحتلة وقتها. فقد كان هناك اقتراحًا بنقل الفلسطينين إلى العراق أو البرازيل، بعد احتلال أراضٍ كان يسكنونها، دون تحديد إلى أي قارة كانوا سيرحلون حسب هذا المقترح!

إذا عدنا لما نُشر من ترجمات إلى العربية للوثائق سنجد أن إسرائيل كانت تتوقع هجومًا مصريا بعد إغلاق مضيق تيران، وإعلان حالة التعبئة العامة لجيش الجمهورية العربية المتحدة في 14 مايو/ أيار 1967. على الجانب الآخر لا نجد هذا القدر من المعلومات حول لحظات ما قبل الحرب. فعلى الرغم من مثابرة المصريين على ترجمة ونشر الوثائق العبرية إلا أن مصر لا تقدم – رسميًا – وثائق جديدة. تنشر الصحافة المصرية، سنويًا، وقائع جديدة من أجل كشف أسرار هزيمة مصر أمام الجيش الإسرائيلي، من جانب الأخير. تستمر عمليات الترجمة ومحاولات التدقيق والبحث عن مصادر مستقلة لكشف دقة ما جرى في ظل غياب وثائق مصرية تحدد ما جرى بدقة وترسم تصورًا يصحح ويكمل ما تطرحه الوثائق الإسرائيلية أو الأمريكية أو الروسية (الاتحاد السوفيتي وقتها).

ما يتجدد في مصر، طوال خمسين عامًا، حكاية غذاها الناس والمُهتِمين بالتاريخ كذلك لتكون علاقة درامية بين صديقَين، مثل موال غناء شعبي. تتحوّل هزيمة يونيو إلى قصة عن عبد الحكيم عامر (1919-1967) وجمال عبد الناصر (1918-1970)، وما يُحكى عنهما لا يمس كون أحدهما كان القائد الأعلى للجيوش العربية والآخر نائبه، ولا يخص واقع هزيمة ثلاث الجيوش المشاركة في اتفاقية الدفاع المشترك معًا في ستة أيام فقط. كانت الجمهورية العربية المتحدة قد وقعت هذه الاتفاقية مع الجمهورية العربية السورية والمملكة الأردنية الهاشمية.

 

حكاية عن الصداقة وأخرى عن محارب مظلوم

إذا تأمّلنا المتاح أمامنا لمعرفة ما جرى بعد خمسين عامًا على هزيمة 1967 سنجد شهادات لكبار ضباط قوات مسلحة مثل قادة الجيش محمد فوزي أو محمد أحمد صادق أو أحمد إسماعيل علي ومذكرات رؤساء أركان حرب سابقين مثل سعد الدين الشاذلي أو مَن شغلوا مناصب رسمية في مكتب جمال عبد الناصر مثل سامي شرف أو مدير المخابرات المصرية وقتها أمين هويدي أو صحفيين وإعلاميين عاصروا وقائعها. أغلب هذه الشهادات نشرت في كتب، تلت الحرب بسنوات، وبالتحديد بعد حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973.

خلال الفترة من حدوث الهزيمة حتى صدور هذه الكتب كانت حكايات المصريين المُسربة عن عامر تتزايد، وتشكل سيناريو درامي عاطفي لسد فجوة غياب المعلومات وعدم شفافية قيادة البلاد لتفسير الهزيمة. وما دعم حكاية ناصر وعامر موت الأخير في سبتمبر/ أيلول بعد ثلاثة أشهر من الهزيمة –انتحارا كما قالت الرواية الرسمية-

قبل الحرب كان ناصر يوكل مهمات داخلية حساسة للجيش بقيادة عامر وكانت الهزيمة بسبب انشغال الجيش بالسياسة أو للدقة بشؤون الحياة المدنية، حسبما جاء في كتاب “حرب الثلاث سنوات 1067-1970” مذكرات للفريق أول محمد فوزي. صدر الكتاب في العام 1988، ليصف فيه قائد الجيش بعد عبد الحكيم محاولاته لإعادة بناء الجيش بعد الهزيمة. برأ فوزي ناصر من المسئولية، ووصف حرب يونيو بأنها كانت خسارة سببها عامر، لم تتوقف بعدها المعارك. رَسَمَ فوزي في كتابه صورة لعامر الذي كان مسئولًا بالكامل عن الفشل العسكري قبل تولي صاحب المذكرات لشؤون الجيش وقيادته لمرحلة حرب الثلاث سنوات. بعد مايو/ أيار 1971 عين محمد أنور السادات قائد جيش ورئيس أركان جديدين هما محمد أحمد صادق وسعد الدين الشاذلي، تولي الأخير منصبه حتى مايو 1974 .. أي بعد حرب 1973. صار بعدها سفيرا ببريطانيا في الفترة من 1974 لمدة عام، وبعدها سفيرًا في البرتغال حتى 1978.

كانت مذكرات الشاذلي ممنوعة في مصر، تتداول سرًا بين القراء، وأدين بسببها في محاكمة عسكرية بالحبس لمدة ثلاث سنوات بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، لم ينفذ إلا في العام 1992، عند عودته لمصر.

كَرَسَ الشاذلي مذكراته للرد على ما رَوَجَ له الرئيس السادات في كتابه “البحث عن الذات” (صدرت الطبعة الأولى عام 1977). ويشير في المذكرات لخلافات استرتيجية بشأن خطط عسكرية من ضمنها خطة مواجهة العائق الذي أسسته إسرائيل على الضفة الشرقية لقناة السويس الساتر الترابي المُسمى بخط بارليف.

أضيفت إلى حكاية عامر وناصر حكاية جديدة خاصة أنها تعاظمت مع حبس الشاذلي بمجرد عودته لمصر عام 1992 بعد فترة طويلة مكثها خارج البلاد بعد خروجه من السلك الدبلوماسي المصري وبقاءه في الجزائر في وصف بالمنفى الاختياري.

كانت الحكاية الجديدة بطلها السادات وخليفته مبارك ضد الشاذلي، فقد جُرَدَ رئيس الأركان الأسبق من أوسمته ونياشينه ورفعت صوره من اللوحات التذكارية لقادة حرب أكتوبر/ تشرين أول، ولم يعد اسمه يذكر في الاحتفالات الرسمية العسكرية.

 

قوانين تمنع الوثائق وتشجع الحكي الشعبي

تحوّل تاريخ مصر العسكري إلى حكايات ملحمية أبطالها شخصيات درامية ربما يكون سببه ليس نزوعًا نحو الدراما والسير الشعبية وإنما يرجع لكون القانون المصري يحيط المعلومات والوثائق الرسمية بقوانين عدة تمنع تداولها.

إذا عدنا إلى القانون بشأن المحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وتنظيم أسلوب نشرها، والذي صدر برقم 121 لسنة 1975، فأنه يمنح لرئيس الجمهورية الحق في وضع نظام للمحافظة على الوثائق والمستندات الرسمية التي لا ينص الدستور على نشرها فور صدورها أو إقرارها.

تضمن هذا النظام منَع نشر بعض الوثائق إلا بعد مرور خمسين عامًا. كما ينَصّ على أن تحاط هذه الوثائق بسرية في حالة حصول شخص عليها أو كان قد أطلع عليها بحكم عمله أو مسئوليته فلا يجوز لهذا الشخص نشرها أو الكشف عن فحواها إلا بعد حصوله على تصريح خاص من مجلس الوزراء بناءً على عرض الوزير المختص. ولا بد أن يكون مرّ على هذا الحدث أو القرار، الصادر بشأنه الوثيقة أو الزمن المؤرخة به، عشرون عامًا.

بعد صدور القانون بأربع سنوات صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 472 لسنة 1979 بشأن نظام المحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وأسلوب نشرها واستعمالها.

يكون لرئيس كل جهة مسئولًا عن وضع النظام الذي يكفل السرية للوثائق، وتخصيص مكان لحفظها، وسجل لإثبات الأسماء العاملين المنوط بهم العمل في هذه الوثائق ومَدَّ عملهم بها. يكون حفظ الوثائق بجهاتها (يقصد بها جهات إصدارها) لمدة لا تتجاوز 15 عامًا تتنقل بعدها إلى دار الوثائق وتظل محتفظة بسرية لمدة 15 سنة أخرى.

بعد مرور ثلاثين سنة تشكل لجنة من مدير دار الوثائق وعضوية اثنين من العاملين بها وتمثل فيها الجهة المصدرة للوثائق أو المستندات لتقرر إباحة الإطلاع على الوثائق أو استمرار السرية ومنع تداولها لمدة لا تتجاوز عشرين سنة تالية بشرط ألا تتجاوز مدة حظر الإطلاع أو النشر خمسين تبدأ من تاريخ صدور هذه الوثيقة.

من ناحية أخرى تمت إتاحة الوثائق لكُتّاب محددين، يقع في كتاب “الانفجار” لمحمد حسنين هيكل (1989، مؤسسة الأهرام للترجمة والنشر) ملحق يضم 35 وثيقة حول يونيو 1967.

ضم الملحق أوراقًا طُبَعَ بأعلى مساحة منها كلمات أو أختام تؤكد على كونها سرية للغاية. هذه الأوراق صور طبق الأصل من قرارات نائب القائد الأعلى بتاريخ 15 مايو (آيار) 1967. في هذه الوثيقة نجد قرارًا برفع درجة الاستعداد للقوات المسلحة إلى درجة الاستعداد الكامل للقتال من سعت 1430 (أي في تمام الثانية والنصف من ظهر هذا اليوم). كما يحدد القرار حركة التشكيلات والقيام بمهام القتال على جبهة إسرائيل. في القرار نجد، أيضًا، إشارة لمعلومات خاصة لحشد إسرائيل قواتها على الجبهة السورية، إلى جانب كلام عن نوايا إسرائيل التوسعية المتمثلة في الرغبة بضرب سوريا. وتكشف الوثيقة عن مخاوف عامر من سيطرة “نظام رجعي” على كلٍ من سوريا والعراق.

رغم صدور الكتاب بعد 22 عامًا من هزيمة يونيو إلا أنه يحافظ على الحكايتين الشعبيتين، كأنه يسير على هامش ما يتداوله المصريون عن “عامر وناصر”. كما تداول المصريون دورًا لهيكل في هذه الحكاية. يقال أنه كان صاحب اقتراح التنحي، حينما أطَلَّ ناصر يوم 9 يونيو/ حزيران 1967 وأعلن تحمله للمسؤولية واستعداده لترك منصبه وتحركت مظاهرات تطالب ببقائه على كرسي السلطة لتستمر سطوة الحكايات عن الأشخاص على حساب إعادة سرد الوقائع والأحداث من أجل تقييمها وفهم ما جرى دون انحيازات أو بحث عن بطولات لقادة تركوا جميعهم الحياة ولا يزال الجدل بشأنهم مسيطرًا على رصد حدث مرّ عليه خمسون عامًا.. كأننا ننقب عن سيرة شعبية وليس وقائع هزيمة عسكرية.