في كل يوم ينتظر الصغار والكبار على أحر من الجمر بعد يوم طويل من الصوم قدوم الشيخ السبيعني عبد الوهاب ليأذن لهم بعد إطلاق صوت المدفع بالإفطار، وهو تقليد قديم يعود إلى عقود طويلة لكنها ما زالت تضفي نكهة خاصة بمدينة القيروان.

يجلس الشيخ ليسترجع أنفاسه المثقلة بالصوم والسنين، ثم يتطلع بوجهه النحيف إلى هاتفه الجوال مدققا في التوقيت. ومع تحركه المفاجئ باتجاه برج سور المدينة العتيقة، تشرئب أعناق المنتظرين لموعد الافطار تعد الخطوات والدقائق.

من فوق برج سور المدينة العتيقة بالقيروان أحد أقدم المدن الإسلامية سيقوم هذا الرجل باطلاق المدفع الوحيد في تونس معلنا للصائمين المترقبين في المنازل والمساجد، عن موعد الإفطار قبل أن يعود أدراجه إلى منزله بعد قيامه بالواجب.

تقليد مميز

في كل غروب يتجمهر الأطفال رفقة آبائهم وسط الحديقة المجاورة لجامع عقبة بن نافع قبالة البرج ليشاهدوا الشيخ عبد الوهاب وهو يضرب المدفع فيستحضر الكبار لحظات الطفولة الخالصة، بينما ينبسط الأطفال لسماع دوي المدفع وقدوم للإفطار.

مرت 17 سنة على الشيخ عبد الوهاب في مهمة إطلاق المدفع. ورغم سنوات الخبرة لا يزال يحسب لتفاصيل هذه العملية ألف حساب تحسبا لوقوع أي طارئ، فقد زادت مخاوفه بعد وفاة مهندس ببلدة الصخيرة من محافظة صفاقس (جنوب).

ولتقليل مخاطر هذه العملية يخضع إطلاق مدفع رمضان إلى مراقبة من فرقة المقذوفات التابعة للحرس الوطني. وقد تم تدريب الشيخ عبد الوهاب على هذه المهمة التي نال شرف تنفيذها بعد أن أصبح موظفا بلديا متقاعدا في مدينة القيروان.

ارتبط شهر رمضان في القيروان، بصوت المدفع منذ عقود عند الإفطار وفي موعد الإمساك. ويعتبره الأهالي القيروان إلى جانب كونه وحدة قيس زمني، ركنا أساسيا ضمن العادات التراثية التي يحافظ عليها السكان مثل تحضيرات العولة (تخزين المأونة) وتعداد الأواني النحاسية ودهن المنازل وفرش الزرابي وغيرها.

يقول مروان (أربعيني) أن إبنيه يطالبانه يوميا باصطحابهما لمراقبة إطلاق المدفع. وعن هذه الطقوس، يقول لمراسلون “أصبح المدفع قيمة تراثية ثابتة ضمن عادات شهر رمضان في القيروان ولا تكتمل بهجة هذا الشهر المقدس دونه”.

رغم امتلاكه إمساكية خاصة بمواعيد الإفطار، فإن الحبيب القربي (ثمانيني) لا يباشر الإفطار سوى بعد إطلاق المدفع. يراقب الرجل صديقه عبد الوهاب عبر باب منزله الخشبي العتيق المقابل لبرج إطلاق المدفع ممسكا بحبات تمر ليفطر عليها بمجرد إطلاق المدفع.

يقول لمراسلون “منذ الصغر تعلقنا بالمدفع وأصبح في رمضان ركنا اساسيا لا يمكن التنازل عنه”. يقول الشيخ الحبيب مؤكدا أنه أصبح مدمنا على هذه الأجواء.

تحضيرات مسبقة

تخضع عملية إطلاق المدفع إلى طقوس وتحضيرات نفسية ولوجستية. عادة يصل عبد الوهاب خليف قبل 20 دقيقة من موعد الإفطار مرتديا جبة بيضاء من التصميم القيرواني العتيق.

قبل صعود البرج يتفقد ساعة الهاتف الجوال وبعد حوار قصير مع نفسه لا يسمعها إلا القريب منه، يلج بابه الفولاذي المغلق بإحكام مانعا الأطفال من الصعود ثم يصعد فوق درجات المدرج بجسمه النحيف ورأسه المنحني الحامل لمسؤولية وهموم آلاف الصائمين.

بمجرد وصوله إلى برج سور المدينة العتيقة في الركن المقابل لجامع عقبة من ناحية اليسار، يخرج من جيب قميصه العبوة التي ستتحول إلى إشارة صوتية وضوئية يراها أكثر من 200 ألف ساكن على مسافة بضعة كيلومترات معلنة عن موعد الافطار.

يتأمل هذا الشيخ صومعة الجامع التي تلوح له بنقوشها المميزة بين القباب البيضاء المدورة وبين شرفات السور العتيقة التي كانت تخفي وراءها المدافع العثمانية الحارسة للمدينة، مترقبا الأمر بإطلاق المدفع.

عشرات الأمتار تفصل بين برج أطلاق مدفع رمضان ومئذنة الجامع تتخللها إشارات مشفرة بين المؤذن والشيخ عبد الوهاب.

تقترب الشمس من الغروب مضفية على المعالم الدينية البارزة من قباب وشرفات وصوامع عتيقة رونقا وجمالا يسافران بالمتأمل إلى قرون مضت من الحضارات التي تعاقبت على المدينة التي كانت القيروان عاصمة حكم دولة الاسلام الممتدة شرقا وغربا.

على شرفات البرج، يراقب الشيخ عبد الوهاب صومعة الجامع ومعه ينتظر الاف الصائمين لتلك اللحظة التي تفصلهم عن مائدة الطعام التي تتفنن النسوة في اعدادها طيلة ساعات ويملؤها الرجال بشهواتهم من الاسواق التي تنتصب بمناسبة رمضان منها اسواق موسمية لبيع معدات البريك والخضر الورقية والفواكه.

تمر الثواني ثقيلة أسفل البرج تشقها أصوات الصغار المرحين مع آبائهم في انتظار اللحظة الحاسمة التي يأتون من أجلها يوميا بينما يهتز صدر الشيخ عبد الوهاب بأنفاس متسارعة كـأنه مقدم على تنفيذ مهمة خطيرة وهو يمسك بالذخيرة. لحظات ترقب وشوق تشرئب فيها أعناق الصغار والكبار في شغف وحب اطلاع.

يمسك عبد الوهاب بسيجارة وولاعة، وهي وسيلة اشعال فتيل القذيفة. مرور الزمن خلف رعشة خفيفة في يديه لكنها لا تفسد مهمته التي لم يخطئ فيها الهدف طوال مسيرته.

يتخلى عن ساعته ويحول أنظاره وتسارع دقات قلبه نحو الصومعة. “ها قد تمت إضاءة صحن جامع عقبة أنظر إلى الضوء على جدار الصومعة… الآن المصلون داخل الجامع يستعدون”.

وفي لحظة الحسم يضيء فانوس أعلى الصومعة، وهي أقدم صومعة في تونس وأدقها هندسة معمارية، وهذا الفانوس هو إشارة ضوئية إلى عشرات المؤذنين بمساجد مدينة القيروان وتخومها المراقبين لها لإعلان الاستعداد لرفع الآذان تزامنا مع جامع عقبة.

ينتظر عبد الوهاب رسالة أخرى مشفرة وهي نفخ المؤذن في المصدح ليجهز نفسه مباشرة قبالة مدفعه ممسكا بمعداته في استعداد للتنفيذ. اللحظة الحاسمة تبدأ مع العبارتين الاوليتين من الآذان “الله أكبر” فيقوم عبد الوهاب بإشعال سيجارته التي يستخدم شرارتها في إشعال الفتيل.

وقبل أن يكرر المؤذن “عبارتي الله أكبر” تكون الشرارة قد سرت إلى العبوة المختفية في الحفرة العميقة لتنطلق إلى الأعلى مخلفة شرارة على السطح تدفع الشيخ عبد الوهاب إلى القفز بضعة أمتار لتحاشي ضررها.

إشارة المدفع

يشاهد المواطنون المراقبون في أعلى سطوح المنازل صغارا وكبارا، على مسافة بضع كيلومترات وميضا كالبرق ويسمعون صوتا مدويا في السماء. وتتساءل النسوة في المطبخ “هل ضرب المدفع؟” (هل دوّى صوت المدفع؟) وأحيانا يسبق سؤالهن هتاف “المدفع ضرب المدفع ضرب” ولا غرابة أن يكون المخبر كهلا أو مسنا بلا خجل أو طفلا بفرحة عارمة.

ابتهاج الصغار وصراخهم أسفل البرج تزيد الأجواء سحرا ومع اكتمال المشهدية يعود الأطفال مع آبائهم إلى المنازل لتناول وجبة الإفطار في حركة سريعة صاخبة. في حين يختار البعض الإفطار والصلاة بجامع عقبة ثم العودة الى المنزل.

يستشعر عبد الوهاب وهو يطلق مدفع رمضان ذكريات عميقة أولها أنه ورث تقليدا قديما يقول لمراسلون إنه “يعود إلى العهد العثماني” وأن القيروان رائدة في إطلاق المدفع وهي حاليا من بين المحافظات القلائل التي يطلق بها مدفع رمضان.

وفسر حرص أهالي القيروان على تواصل المدفع بالقول “هناك راحة نفسية وتعلق وجداني بالمدفع”، معتبرا أنه ركنا ثابتا ضمن أجواء شهر رمضان الذي يعد أبرز المناسبات الدينية التي يوليها أهالي القيروان اهتماما خاصا على صعيد اجتماعي وديني وثقافي وسياحي وأيضا على مستوى عادات الأطعمة التقيلدية مثل الكفتاجي والخبز التقليدي والحلويات اشهرها المقروض.

تقنيا، يوضح الشيخ ان مدفع القيروان لا يتم اطلاقه عبر المدفع العثماني العتيق الذي توجد العشرات منه في القيروان منها مدافع تزين الساحات (ساحة اولاد فرحان قرب جامع عقبة وساحة باب الجلادين) والسبب أنه لا يمكن إطلاق القذيفة لأسباب أمنية في ظل توسع العمران.

ما بين مدفع الإفطار ومدفع الإمساك (حوالي 8 ساعات) تنشط في مختلف مدن القيروان حركية مميزة على وقع النسمات الصيفية تنقسم بين المقاهي التي تزدحم بروادها وتستلقي العائلات في الساحات العامة في حين تكتظ المساجد بالمصلين ويتعالى عبر مكبراتها اصوات تلاوة القرآن الكريم.

وتنشط الأسواق خصوصا سوق المدينة العتيقة التي تعرض منتجات تقليدية وأخرى صناعية.

مع اقتراب موعد الإمساك فجرا، (بدء يوم الصيام) يأتي الشيخ عبد الوهاب ثانية، من نفس المسلك لكنه هذه المرة لا يجد أطفالا بانتظاره. فيعيد تفاصيل إطلاق المدفع معلنا عن انتهاء فترة الأكل والشرب.

نقل عبد الوهاب خبرته إلى نجله وحفيده. ويقول لمراسلون إنه سيسلم مشعل إطلاق المدفع إلى غبنه العام المقبل على أن يواصل ما تبقى من هذا الشهر إلى غاية يوم العيد الذي يطلق فيه 3 طلقات معلنة عن اختتام أجواء رمضان وبدء أيام العيد التي ينتظر فرحتها الكبار والصغار.