بدا واضحاً خلال العمل على هذا التقرير أن فكرة الخوض في موضوع ميناء العاصمة الليبية طرابلس لم يكن من السهولة بمكان، فالوصول إلى تلك البقعة المحروسة والحديث إلى القائمين عليها تطلب وقتاً وإجراءات وتصريحات أكثر من المعتاد.

بعد حصولنا على موافقة المدير العام للميناء مصباح طاهر الحبيبي والذي يبدو ذا سلطة كبيرة على كل ما يحدث في الداخل، تمكنا من القيام بجولة لم نتعرض خلالها لأي إيقاف أو سؤال، بل تعاون معنا كافة العاملين وأجابوا أسئلتنا برحابة صدر ملحوظة.

بضائع مكدسة

كان المشهد الأبرز في الداخل هو لحاويات أو بضائع قديمة جداً محتجزة في الميناء بانتظار التصرف فيها، بعضها تجاوزت مدة بقائه هناك الست والسبع سنوات، بل في مخازن الميناء وجدنا أدوية وسلعاً ومواد غذائية فاسدة موردة منذ سبعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى بعض السلع المعمرة التي كان يفترض أن تقوم لجنة البيوع بالميناء ببيعها في مزاد علني للفائدة العامة حسب اللوائح إلا أن مصلحة الجمارك لم تأذن بذلك بعد، منها على سبيل المثال أجهزة ومعدات تستعمل للتخلص من مخلفات الحرب، مناسبة للاستعمال في الظرف الراهن بالبلاد.

فضلاً عن مواد موردة لصالح جهات مثل السفارة الإيطالية وفندق كورنثيا، كلها مكدسة في المخازن لا يقدر أصحابها على استلامها بسبب طول وتعقيد الإجراءات، وحتى الشركة العامة للكهرباء تملك مولد كهرباء ضخم محتجزاً في الداخل لسبب لم نتبينه بالتحديد إلا أنه أيضاً يتعلق بإجراءات إدارية.

وعلى مقربة من الرصيف تقبع سفينة منذ عدة سنوات تحمل على متنها مصنع إسمنت متكامل، قيل لنا أن التاجر المورد للمصنع أحيل إلى النيابة العامة لمخالفته القانون، ولحد الآن لم يتم إيجاد حل للتصرف فيه كون مصلحة الجمارك لم تمنح إدارة الميناء إذناً بذلك.

غير بعيد عن ذلك توجد سفينة أخرى احتُجزت من قبل عناصر الأمن كانت قادمة من إسبانيا لتتزود بالنفط، لكنها ليست الوحيدة فهناك أخريات في ميناء الشعاب ووجودها يسبب ربكة للسفن، وهي أيضا بحاجة للإسراع في إنهاء إجراءاتها من قبل النيابة العامة، وهو ما لن يتم على المدى القريب حسب تعليقات عدة سمعناها من العاملين في الداخل.

عدد من الموردين الذين أتيحت لنا مقابلتهم يشتكون كثرة الإجراءات والتعطيل الذي يصفونه بالمتعمد، وتعرضهم للابتزاز من قبل موظفين بالداخل لإتمامها بشكل أسرع، وكذلك من بعد المكاتب التي تقدم خدماتها للتجار وكانت في السابق موجودة في مكان واحد بالقرب من الميناء وتم نقلها إلى أماكن متفرقة في طرابلس.

عزوف السفن

مع ذلك يرفض مدير الميناء الحديث عن وجود خروقات أو تجاوزات كبيرة خلال عهده في إدارة الميناء منذ أكثر من سنتين، ويؤكد أن نسبة الانضباط والالتزام باللوائح داخل المنفذ تعد جيدة إذا ما أخذ بعين الاعتبار الوضع العام للبلاد، بل ويشير إلى أن هناك عزوفاً من ربابنة السفن والتجار عن التعامل مع ميناء طرابلس بسبب كثرة الإجراءات والتشديد الأمني على البضائع، وهو ما يراه ضرورياً لأمن البلاد وسلامة المواطنين.

ولم تفته الإشارة إلى كثرة الجهات الرقابية كالجوازات والجمارك وخفر السواحل والرقابة وغيرها التي تتبع وزارات مختلفة ويتداخل عملها أحياناً ما يسبب ربكةً في سير العمل، مستدركاً بأن أوامره صدرت بضرورة تقيد كل جهة حسب اختصاصها منعاً للتعطيل.

يقول الحبيبي أنه يضطر في أحيانٍ كثيرة لتقديم تعهدات مكتوبة باسمه شخصياً لربابنة السفن بالحفاظ على سفنهم وبضائعهم، وذلك لجعلهم يوافقون على الدخول لميناء طرابلس الذي يؤكد أن الوضع الأمني داخله جيد جداً إذ لم تسجل منذ أكثر من عامين خروقاتٌ أمنية تذكر، مشيداً في ذات الوقت بدور مدير النقطة الأمنية بالمنفذ “الذي يحرص دائماً على فض النزاعات بأسرع ما يمكن”.

الجمارك غائبة

المسؤول عن التفتيش الآلي مختار كشلاف يقول لـ”مراسلون” إن المخالفات تقع يومياً فيما يخص البضائع التي تصل إلى الميناء، فحين تتم مقارنتها بقوائم الاستيراد يتضح غالباً أن البضائع التي تصل ليست في قائمة التوريد أوالعكس، لذلك يتعين عليهم حجز كل البضائع التي تصل وهي غير مسجلة.

بعد حجز البضائع يقول كشلاف يأتي دور مصلحة الجمارك التي يتهمها بأنها “لا تقوم بدورها على أكمل وجه والقصور دائماً يكون من جهتهم”، فحسب توضيحه دور مكافحة الجمرك هو إتمام ما بدأه جهاز التفتيش الآلي، وداخل الميناء يُفترض أن يكون هناك عناصر من مكافحة الجمرك يتابعون البضائع المفرج عنها مؤقتاً إلى حين الحصول على إذن دخول لبضائعهم إلى السوق.

مخازن الجمارك بالميناء التي تعج ببضائع بين منتهية صلاحية وغير مطابقة للمواصفات تحوي أيضا بضائع غير محظورة لكنها تخالف الإجراءات كأن تصل السلع غير مسجل عليها اسم الشركة الموردة أو ملصقاتها غير معربة، وبسبب تعطل الإجراءات يقول كشلاف إن التجار يلجؤون لاستخراج موافقات من جهات أخرى مثل وزارة الصحة أو الاقتصاد.

البضائع التي تصل الميناء وتتجاوز مدة بقائها ستين يوماً دون أن يتم استخراجها من قبل المورد يحق للجنة البيوع بيعها في مزاد علني حسب القانون، وهذه اللجنة أيضاً مكبلة حسب كشلاف ولا تستطيع القيام بواجبها لأنها تحتاج إلى قرار من مصلحة الجمارك، ولهذا السبب نرى أرصفة الميناء تعج بالبضائع المختلفة التي لن يتم تسليمها لأصحابها ولا التصرف فيها حتى تفسد.

مؤكداً أن نسبة السيطرة على المنفذ رغم العراقيل تعد ممتازة، وأن أية بضائع يتم حجزها أو ضبطها داخل السوق يتضح غالباً أنها دخلت عبر الموانئ الأخرى من الخمس أو مصراتة، بسبب غياب دور مكافحة الجمرك في المينائين الآخرين.

ضبط المخالفات

حسين الخباط من سرية الإسناد والذي تقع على عاتقه حماية الميناء، يقول إن أوامرهم تقضي بتفتيش كافة السيارات التي تدخل وتخرج من الميناء تفتيشاً دقيقاً لا يُستثنى منه حتى مدير الميناء شخصياً.

الخباط الذي بدا غير مقبول لدى البعض في الميناء يتجول بسيارته المعروفة للجميع ويقوم بضبط المخالفات تباعاً، لكنه يحاول أن يتعامل مع بعضها بمرونة مرغماً، يقول “أحاول جاهداً تفهم بعض التصرفات غير المقبولة، فقط حتى لا أقطع رزق أحد داخل الميناء، لكن علينا ان نفهم أن ليبيا فوق الجميع، والبعض لا يدرك أن هذه أمانة يجب المحافظة عليها”.

في جولتنا مع الخباط رأينا بعض المخالفات التي لا تصل لحد الخرق، لكن كل ذلك لا يُقلق الخباط الذي حملنا إلى حيث تقبع 340 حاوية مملوءة بالأرز والدقيق يقول إن بعضها موجود هناك منذ أكثر من سبع سنوات (أي قبل الثورة 2011)، لكن التخلص منها حسب قوله “يحتاج لسلسة من الإجراءات المعقدة التي لن تتم في ظل التخبط وعدم وجود من يتحمل مسؤولية قراره”.

وحيث تضطر إدارة الميناء لتحمل مسؤولية مواجهة أمور أخطر، وخوض مساومات حول غض النظر عن الحاويات الفارغة التي تصل إلى الميناء، يقول الخباط إنهم تلقوا عروضاً بلغت قيمتها مليوني دينار ليبي مقابل تمرير مسألة الحاويات الفارغة التي بلغ عددها 54 حاوية ضبطت داخل ميناء طرابلس بعد وصولها فارغة أو تحوي كمية من التراب، لصالح تجار حصلوا على اعتمادات مستندية من مصارف مختلفة لتوريد سلع متنوعة، ولا يستطيعون سحب قيم الاعتمادات دون الحصول على مستند من الميناء يفيد بوصول البضائع التي لم تصل في الواقع، بل وتمكنت إدارة الميناء حسب تأكيد عدد من المسؤولين في الداخل من إحالة بعضهم على النيابة العامة للتحقيق.