قبل نحو 53 سنة، بدأ أحمد حسن (80 عاما) رحلة عمله سايس ينظم وقوف السيارات بمنطقة وسط البلد، في العاصمة المصرية. كانت الأوضاع حينها مختلفة كثيرا. زيه الرسمي يعينه على أداء عمله بسهولة، وكسب احترام الزبائن وثقتهم، وهم يتركون سياراتهم بحوزته مطمأنين. وعند عودتهم، يدفعون له “إكرامية” يقدرونها بأنفسهم، مقابل مساعدته لهم في الاصطفاف بسلام، في مكان آمن، لا يعرضهم للمخالفات المرورية أو مصادرة سياراتهم، ويحمي ممتلكاتهم من السرقة.
يبدأ حسن يومه في السابعة صباحا، ويستمر بعمله إلى قرب منتصف الليل. يتناول وجباته المنزلية الدافئة، التي يحضرها له أولاده من منزلهم القريب، باستمتاع، ويمارس مهنته في هدوء دون كلل أو ملل، وبغير مشادات كلامية مع الزبائن حول رسوم “الركنة”، أو مدة بقاء السيارة بالموقف.
وبينما هو ما زال محتفظا إلى حد كبير بتقاليد وأصول مهنته كما تعلمها صغيرا، ويتمسك بأسلوب تعامله المهذب مع الزبائن، يتغير المشهد من حوله، فتتزايد المساحات التي تحتلها مواقف السيارات العشوائية، لتستحوذ على معظم الأرصفة والأماكن العامة الخالية بوسط المدينة، يحتلها أشخاص يصفهم كثير من أصحاب السيارات بالبلطجية.
ويعود تزايد أعداد المواقف بوسط المدينة، لرواجها، وأرباحها الطائلة، دون الحاجة لاستثمارات. وفي العقد الأخير، انتقلت الظاهر لأماكن أخرى في القاهرة الكبرى (والتي تشمل محافظات القاهرة، والجيزة، والقليوبية)، حيث يوجد قرابة 4 ملايين سيارة مرخصة، وترتفع أعداد السياس، الذين تعمل نسبة كبيرة منهم بصورة غير شرعية، بشكل فردي، أو من خلال شخص يتحكم في المنطقة التي يحتلونها.
ويقوم ذلك الشخص بتوزيع المساحات التي يحتلها على السياس، مقابل مبالغ تتراوح بين 100 إلى 400 جنيه في اليوم للرصيف الذي يتسع لنحو عشرين سيارة، وذلك حسب كثافة الحركة بالمنطقة. ويفرض السياس على قائد السيارة الذي يرغب في ترك سيارته أن يدفع مقدما مبالغ تتراوح ما بين 5 إلى 10 جنيهات، وأحيانا 15 جنيها في أوقات الذروة.
وتتباين عائدات المواقف، فبعضها مجاور لمؤسسات وبنوك، يستخدمها الموظفون منذ الصباح الباكر وحتى منتصف اليوم، ومن ثم فهي لا تحقق إيرادات كبيرة، وأخرى تجارية تشهد نشاطا مستمرا، لا تتوقف بها السيارات لوقت طويل. ويقوم بعض السياس بركن السيارات في صفوف إضافية، لتحقيق مزيد من العوائد، بالمخالفة لقوانين المرور، ويشترطون أن يترك مالك السيارة مفتاحها، لتحريكها، حال قيام شرطة المرور بحملات لضبط السير.
ويقول أحمد حسن إنه حصل على ترخيص مزاولة مهنته من محافظة القاهرة، ويعمل بشكل قانوني، ويعتبر نفسه مسؤولا عن الحفاظ على سيولة المرور، ومنع وقوف السيارات صفين، حتى لا تعاق حركة السيارات والمارة في جزء مهم من شارع يوسف الجندي، الذي يربط بين شارعين حيويين، وهما هدى شعراوي، وصبري أبوعلم، بباب اللوق.
وعلى الرغم من وجود عدة جراجات عامة بالمنطقة، وعلى رأسها جراج التحرير الذي ينقسم إلى 4 طوابق، بسعة 1700 سيارة، إلا أن معدلات إقبال السيارات على المواقف العشوائية، بالمنطقة التي تضم العديد من المصالح الحكومية، والبنوك، والشركات، ومراكز التجارة والتسوق، تجعل وجود مكان خال لركن سيارة، أمرا صعبا، خاصة في ساعات الذروة، والتي تمتد من التاسعة صباحا وحتى الخامسة أو السادسة مساء.
كما أن حساب تكلفة الوقوف بالساعة داخل معظم الجراجات العامة، يشكل عبئا ماليا يتجاوز الإتاوات التي يفرضها السياس الجدد، الذين أفرزتهم الأوضاع الجديدة.
فعلى سبيل المثال تحسب مدة الانتظار في جراج التحرير بالساعة: تبدأ الساعة الأولى بـ4 جنيهات، ومن ساعة الانتظار الثانية وحتى الثامنة بـ3 جنيها، ومن الساعة التاسعة وحتى مرور 24 ساعة بـ2.5 جنيه. وهذا يعني أنه بالنسبة للموظف الذي يقضي 8 ساعات في عمله، فأن عليه أن يدفع 25 جنيها كل يوم في جراج التحرير، مقابل 5 أو 10 جنيهات فقط في جراجات الأرصفة والساحات العامة.
إضافة إلى أن موقع جراج التحرير الواقع بميدان التحرير، ككثير من الجراجات التابعة للدولة، لا يكون دائما مناسبا لجميع القادمين لوسط المدينة بأطرافها المترامية، ولا يحقق المرونة التي توفرها الجراجات الأهلية، والعشوائية، التي تكون بالقرب من المكان الذي يقصده صاحب السيارة مباشرة.
ويشكل تعامل أحمد حسن، وأقرانه، ممن تعلموا أصول المهنة في الزمن الجميل، ميزة إضافية لمن يهتم بأسلوب التعامل معه كزبون، كما أن حوادث السرقة التي تكررت من بعض السياس غير المرخصين، تشكل دافعا آخر للبحث عن مكان آمن، وسايس موثوق به، ومسجل لدى المحافظة، ومعروف عند أجهزة الأمن، ولديه تصريح لممارسة المهنة، وزي رسمي يمكن تميزه به.
تصوير: ياسر خليل