كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر وأشعة شمس الربيع المتسللة من خلف السحاب تبث في المكان دفئا ونشاطا. يتكئ الطفل بشير صاحب العشر سنوات على صديق طفولته الهادي وسط أكوام السلع المنتشرة في كل ركن من أركان نهج “شارل ديغول” في قلب العاصمة تونس منتظرا قدوم الزبائن لبيع أصناف من الملابس الجاهزة المستوردة من الصين.
يبدو التعب واضحا على هذا الصبي الذي أعياه الصياح منذ بدايات الساعات الأولى للنهار كي يسوّق سلعته الملقاة دون تنظيم على الرصيف فوق “كرتونة” بالية لا تتجاوز مساحتها مترا.
يتعين على بشير (13 عاما) الذي زادته حرارة الطقس سمرة أن يبيع ما تسير من الأقمصة البيضاء والسراويل القصيرة المزركشة لعله ينهي يومه بجني بعض الدنانير ليعود فرحا إلى عائلته.
يعيش هذا الطفل وضعا قاسيا كغيره من الأطفال الذين اقتحموا سوق الشغل في سن مبكرة بعدما انقطعوا عن التعليم. ينشغل بشير طول اليوم بإقناع المارين من جانبه فوق الرصيف بأن بضاعته بخسة وجيدة.
ولد بشير في عائلة متواضعة. لم يقدر والده بمفرده على توفير لقمة العيش لعائلته كبيرة العدد. يقول “لدي خمسة أشقاء وأمي مريضة ولا تعمل لذلك لم يكن في مقدور والدي توفير المالي الكافي لنفقاتنا بمفرده”.
قرر بشير الانقطاع عن التعليم والدخول إلى سوق الشغل لمساعدة عائلته. بالنسبة إليه كان المجال مفتوحا للعمل في السوق الموازية التي تنشط بكثرة في شوارع العاصمة تونس وتغزو كل ركن فيه.
بتتالي الوقت أصبح بشير بارعا في العمل في بيع الملابس الجاهزة التي يقع استيرادها من الصين بأسعار بخسة. وفي ظل إقبال الناس المتهافت على شراء هذه البضائع أصبح يجني بشير بعض الأموال التي يساعد بها عائلته.
يحصل بشير من تاجر وسيط كل أسبوع على كيس كبير مليء بالملابس الرجالية ويتوجب عليه بيعها في زمن قياسي قبل أن يأخذ عمولته ويعطي المال للتاجر الذي تربطه علاقة قوية بوالده الذي يعمل بدوره في التجارة الموازية.
وبسؤاله عن مصدر تلك البضائع المستوردة يقول بشير لمراسلون إن هناك تجارا ميسورين يحتكرون نشاط التوزيع في سوق “سيدي بومنديل” وهي من أشهر الأسواق التي يرتكز نشاطها على التجارة الموازية وبيع السلع المقلدة.
سجائر مهربة
ليس بعيدا عن بشير كان قاسم (14 عاما) ينتظر قدوم الزبائن واضعا أمامه علبة كبيرة من الورق المقوى تحمل فوقها كل أنواع السجائر المجهولة المصدر والتي لا يتم توزيعها عبر المسالك القانونية.
تباع هذه الأصناف من السجائر المهربة والتي تسمى بالتونسي “دخان دزيري” بأثمان بخسة حيث لا يتجاوز سعر أغلب الأنواع ربع دولار للعلبة الواحدة.
بعد انقطاعه عن الدراسة لأسباب اجتماعية لجأ قاسم بدوره للعمل بالسوق الموازية. “كنت أبيع العلكة والمناديل الورقية في محطات النقل العمومي”، يقول.
تغير نشاط هذا الصبي بعد ذلك ليصبح بائعا متجولا في شوارع العاصمة للسجائر المهربة رغم أنها ممنوعة قانونيا.
يجتهد قاسم كي يبيع هذه السجائر، فكلما باع أكثر كلما كان رب عمله كريما معه، حيث يمنحه يوميا 5 دنانير (ما يعادل دولارين ونصف)، يصرف منها هذا الفتى نصفها ويمنح بقية المبلغ لوالدته التي تشتغل معينة منزلية.
وسيط لبيع الخمر
قرب محطة “برشلونة” للحافلات والميترو في قلب العاصمة يقوم الفتى يسري (16 سنة) بقلي الفول السوداني الملبس بالحلوى داخل حاوية قصدير مدورة في انتظار قدوم المارة الراغبين في الاستمتاع “بقرمشة” حلوته.
صوته الرجولي لم يغير تقاسيم وجهه الطفولي. غادر يسري بيت العائلة منذ سن مبكرة، فقد دفعته الظروف القاسية إلى العمل وهو في سن الثامنة عندما كان يساعد أمه في بيع “خبز الطابونة”، قبل أن تنساق قدمه نحو عالم مجهول.
يقول يسري في حديثه عن حياته أنه كان تلميذا نجيبا في السنة الأولى لكنه لم يعد بعد ذلك إلى المدرسة.
كان يسري يهوى المكوث في الشوارع وتمضية ساعات طوال في التسكع وسط العاصمة بمعية رفاقه في جهة “الكبارية” وهو حي شعبي فقير متاخم للعاصمة.
ذات يوم استدرجه شاب يكبره سنا للعمل معه كوسيط لبيع الخمر خلسة. أغراه ببعض المال فأصبح وهو في سن الثالثة عشر وسيطا بين مشغله والحرفاء.
لم يدم نشاطه في هذه الوساطة طويلا ليعود إلى بيع الفول السوداني. فذات يوم ألقت الشرطة القبض عليه وهو بصدد تزويد أحد الزبائن بقوارير “بيرة”.
قضى يسري فترة في مركز إصلاح خاص بالأطفال قبل أن يغادره، ويمتهن هذا العمل عله يقدر هذه المرة في مساعدة والدته الفقيرة.