يلاحظ المارة باتجاه منطقة “باب بحر” أحد أقدم أبواب العاصمة تونس وبوابة العبور إلى شرايين المدينة العتيقة حركية ملفتة للأنظار في ظل ازدحام السيارات وأصوات التجار المتداخلة. لكن الملفت أكثر هي تلك الأصوات “الخفية” التي تسأل المارة عما إذا كانوا يرغبون في صرف العملة.
“صرف..صرف” ينادي أحد تجار صرف العملة الصعبة الذين يعملون بطرق غير قانونية بعض المارين من جانبه بصوت خافت، لكن نظراته تشي بأنه يبحث عن زبائن يقصدون هذه السوق السوداء التي ينشط فيها عشرات التجار منذ عقود وخاصة قرب محطة سيارات النقل الخاصة بالجزائر.
ورغم أن الشارع المؤدي لهذا المكان يعج بفروع البنوك التي تحتكر نشاط صرف العملة الأجنبية إلى جانب البنك المركزي، فإن منطقة “باب بحر” بالعاصمة تمثل القلب النابض لتجار العملة خارج أعين السلطات والمقصد الرئيسي للراغبين في تحويل الدينار التونسي إلى عملات أجنبية وخاصة اليورو والدولار أو العكس.
على الرصيف
مع بداية كل يوم يبدأ تجار العملة الذين يحافظون على رزقهم بالعمل بطرق سرية في التجول على أرصفة الشارع المؤدي إلى “باب بحر” بحثا عن الزبائن. وهؤلاء التجار لا يختلفون في شيء مقارنة ببقية المارين بجوارهم، سوى أنهم لا يتجولون في هذا المكان لمجرد الفسحة وإنما للاسترزاق.
ما زاد في انتعاش هذا النشاط بقطع النظر عن مسألة غض الطرف من قبل السلطات هو الإقبال المتزايد على العملة الصعبة عقب تدني قيمة الدينار التونسي هذه الفترة، ناهيك عن غياب مكاتب خاصة لصرف العملة وعدم وجود آلات لصرف العملة ما عدا آلة وحيدة بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة.
وفي ظل هذا الفراغ ملأ تجار صرف العملة هذا المكان حتى أن بعضهم أصبحوا يقفون أمام فروع البنوك المنتشرة بالعاصمة بعد إغلاقها على الساعة الرابعة زوالا، لاصطياد الباحثين عن تبديل العملة. ويستمد الكثير من التجار قوتهم من إغلاق البنوك لفرض هوامش ربح يجنون منها أموالا أكثر.
وحول الأرباح التي يدرها هذا النشاط يقول أحد هؤلاء التجار -رافضا الكشف عن هويته لمراسلون- إنه يجني أرباحا متفاوتة في اليوم لكنها تكفيه لتسديد نفقاته وإرسال بعض المال إلى أسرته التي تقيم في مدينته جلمة من محافظة سيدي بوزيد والتي اشتهر أهلها بالتجارة في السوق السوداء.
انقطع أ.م (26 عاما) عن التعليم مبكرا قبل أن ينزح إلى العاصمة تونس للالتحاق ببعض أقاربه حيث عمل معهم منذ سنوات في بيع البضائع المهربة. لكن مشواره تغير منذ حوالي السنة بعدما قرر اقتحام تجارة صرف العملة في السوق السوداء بحثا عن ربح أوفر بالرغم من عواقبها السجنية.
يقول أ.م لمراسلون إنه لا يملك خيارا آخر سوى العمل في هذا النشاط لمساعدة والده العجوز الذي يعمل براتب هزيل بينما تقبع والدته بالمنزل ويواصل أخويه الدراسة. وهذا الشاب لا يفكر في قضاء بقية حياته في هذا العمل فهو يخطط لتوفير بعض المال للعودة لبلدته ليفتح مشروعا صغيرا.
فن التفاوض
وهذا الشاب هو نموذج من عدة شبان آخرين التحقوا منذ فترة قصيرة بالسوق السوداء لصرف العملة الذي يضم أيضا تجارا متقدمين في السن ولديهم سواق عدلية ومع ذلك يعثرون على الزبائن. وضمن هؤلاء التجار يواصل ب.خ عمله في سوق “باب بحر” في سرية تامة منذ أكثر من عشر سنوات.
يقول ب.خ إن “المبتدئين” لا يفقهون التفاوض مع الحرفاء وغالبا ما يقدمون صورة سيئة عن هذا النشاط الذي قال إنه تحكمه ضوابط ومعاملات حتى وإن كان خارجا عن القانون. ورغم أن بلغ عقده الخامس ما زال هذا التاجر يسترزق بالأساس من تجارة العملة الصعبة فهو لا يملك عملا آخر.
يعلم هذا التاجر أنه من الصعب على الدولة تلبية حاجة الحرفاء من العملة الصعبة عبر البنوك فالقانون التونسي لا يسمح للموطن سوى تغيير ما قيمته 6 آلاف دينار تونسي في السنة الواحدة عند حصوله على تأشيرة سفر للخارج. وفي ظل محدودية هذه المنحة السياحية غالبا ما يلجأ تونسيون للسوق السوداء.
يستعين ب.خ ببنتيه الجسدية الضخمة ونظراته الحادة وخبرته في التفاوض من أجل فرض شروطه وتسعيرته على الزبائن الذين يلتقطهم في الشوارع. كما يستغل السمعة المخيفة لتجار العملة لممارسة ضغط على الحريف ليجعل التفاوض لصالحه ويمنع الحريف بنفس الوقت من إلغاء المعاملة.
يوضح هذا التاجر قيمة الهامش الذي يجنيه من صرف العملة الصعبة. فمثلا حينما يكون سعر صرف الدولار في البنوك بقيمة 2.5 دينار تونسي كما هو الحال اليوم يشتري هذا التاجر الدولار في السوق السوداء بقيمة 2.2 دينار كحد أقصى بعد إغلاق البنوك. ثم يرفع هامش الربح عند بيع العملة مقابل الدينار.
في نهاية اليوم يراجع هذا التاجر ما لديه من عملات أجنبية ومحلية ويحسب ما جناه من هامش ربح. وفي صباح اليوم الموالي يتابع مثل بقية تجار العملة أسعار صرف العملات الموضوعة على أبواب بعض البنوك ليحدد سقف الشراء والبيع عند معاملاته مع الزبائن الباحثين عن حلول بعيدا عن أعين السلطات.