ما سبق واستنتجناه قبل عام مضى ونُشر في موقع “مراسلون” بأن الاتفاق السياسي لن يصمد على أرض الواقع لأن السياسيين الذين وقعوه لا يملكون سلطة القرار على القوات والميليشيات المسلحة، توصل إليه الآن تقرير مجموعة الأزمات الدولية القائل بأن اتفاق الصخيرات الموقع في ديسمبر 2015 وصل إلى طريق مسدود.

ما سبق واستنتجناه قبل عام مضى ونُشر في موقع “مراسلون” بأن الاتفاق السياسي لن يصمد على أرض الواقع لأن السياسيين الذين وقعوه لا يملكون سلطة القرار على القوات والميليشيات المسلحة، توصل إليه الآن تقرير مجموعة الأزمات الدولية القائل بأن اتفاق الصخيرات الموقع في ديسمبر 2015 وصل إلى طريق مسدود.

والواقع أن طريقه كان مسدوداً منذ أن وصل المجلس الرئاسي من تونس إلى العاصمة طرابلس متسللاً على متن فرقاطة، واستقر في قاعدة بوستة البحرية بحراسة جزء من مليشيات طرابلس، على الضد من ميليشيات أخرى سرعان ما تواترت الاشتباكات المسلحة بينها، وأدت إلى انفلات أمني عام انتشر في أشكال الاختطاف بدافع الابتزاز المالي أو الخصومة السياسية أو الجهوية وعمليات السطو والنهب والسلب بالإكراه المسلح والاغتيال المستهدف والقتل المجاني والاغتصاب، بينما بقي المجلس الرئاسي محصور الحركة في حيزه الأمني الضيق عاجز عن أداء دوره في تقديم الحلول لمشاكل الناس الحياتية التي لا تحتمل أي تأخير مثل نقص السيولة في المصارف.

وعندما وجد السيد فائز السراج ألا حول ولا قوة لمجلسه الرئاسي ذهب إلى لندن لحضور اجتماع اقتصادي (نهاية أكتوبر الماضي) رتبه الرعاة الغربيين لدعمه سياسياً واقتصادياً.

ثم عاد ليقول في حوار صحفي مع موقع ليبيا هيرالد (Libya Herald) أن عمل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق مُعاق بسبب من سماهم بالمفسدين الأربعة. ويقصد بهم كما أوضح: المشير خليفة حفتر لأنه حسب السراج، مسؤول عن التصعيد العسكري، والمستشار عقيلة صالح لأن مناوراته في البرلمان بعدم الموافقة على اتفاق الصخيرات أدت إلى إنسداد الأفق السياسي، والصديق الكبير رئيس المصرف المركزي لأنه يرفض توفير الأموال لتسيير أعمال “حكومة الوفاق”، والمفتي الصادق الغرياني بسبب فتاويه المتطرفة.

موضوعياً قد يكون السيد السرج محقاً في ما قاله بشأن ما يواجهه من عرقلة. لكنه يتجاهل أن المعرقلين الذين ذكر بعضهم أو أهمهم يعكسون رفضاً شعبياً واسع النطاق في جهات البلاد لاتفاق الصخيرات. بحيث يتبين أن الأزمة في الاتفاق وليس في المعرقلين له، الذين يقول أنه لا يستطيع التعامل معهم لأنه لا يملك الأدوات التنفيذية التي يملكونها والمتمثلة بالمال ووسائل الإعلام والسلطة الدينية.

أما الأداة العسكرية التنفيذية فلا رهان له سوى على ميليشيات معينة يسميها بـ”ميليشيات حميدة” قابلة للتعاون وهي القائمة على حماية تواجد المجلس في القاعدة البحرية، متغاضياً عن تنفيذ استحقاق الترتيبات الأمنية التي حددها الاتفاق السياسي لإخراج الميليشيات من العاصمة تحديداً، وبالتالي لا يملك كما قال سوى الإعراب عن أسفه لخذلان الناس وعدم تحقيق المجلس الرئاسي لتوقعاتهم الكبيرة بتحسن الأوضاع لغياب الموارد المالية اللازمة لتحقيق ذلك.

وكان غرض اجتماع لندن الاقتصادي تحقيق ثلاثة أهداف كما جاء على لسان السفير البريطاني لدى ليبيا بيتر ميليت وهي: تأكيد الدعم الدولي للاتفاق السياسي الليبي، وكسر الجمود في تنفيذه، وإيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها البلاد عبر توفير الخدمات الأساسية للمواطنين الليبيين، وتسهيل زيادة عائدات النفط واستخدام هذه العائدات لتحسين ظروفهم.

لكن اجتماع لندن المذكور وجد فيه خصوم حكومة السراج تعزيزاً لموقفهم الرافض لاتفاق الصخيرات إلى درجة اعتباره (اجتماع لندن) مؤامرة للوصاية الغربية على الأموال الليبية المجمدة في الخارج.

ومن الواضح، حسب تحليل الوقائع، أن ما جعل ويجعل “اتفاق الصخيرات” ميتاً حيّاً هو تمسك رعاته الغربيين (الأمريكان والفرنسيون والبريطانيون) به، ومحاولاتهم المستدامة لإنعاشه غير مهتمين بحقيقة أنه اتفاق مُسقط على الليبيين من خارج ليبيا ممثلاً لرغبات ومصالح المشاركين فيها من غربيين وبعض العرب ومجموعة من الشخصيات الليبية تغلب عليها المطامع الشخصية والحزبية والفئوية والجهوية.

والنتيجة اتفاق يتجاهل حقيقة واقع القوة على الأرض. فكان التوقيع عليه بحسبانه وصفة ناجحة للوفاق يمثل في واقع الأمر توقيعاً على تأزيم الأزمة وتعميق الانشقاق. والحل حسب تقرير “مجموعة الأزمات الدولية” يستوجب على نحو ملح إطلاق مفاوضات جديدة يكون عمادها اللاعبون الأمنيون، بهدف تعديل اتفاق الصخيرات والخروج باتفاق جديد مبني على توافق القوى التي تتحكم بالسلاح.

لكن اللاعبين الأمنيين (آمراء الميليشيات) الكثر والمتناحرين في حرب الجميع على الجميع لا يمكن جمعهم حول طاولة حوار وتوافق. أي أن واقع النزاع المسلح على الأرض لا يسمح بإيجاد حل سياسي مستقر. وهذا يعني انتظار سيطرة قوة عسكرية واحدة موحدة على إقليم طرابلس وكذلك أخرى مثلها على إقليم فزان، كما هو الحال مع سيطرة قوات حفتر على إقليم برقة. عندها يمكن الحديث جدياّ عن إمكانية تحقيق توافق بين القادة العسكريين في الأقاليم الثلاث على قيادة عسكرية موحدة لإعادة تنظيم الجيش الليبي على عقيدة وطنية وتفعيل مهامه في نزع السلاح وتفكيك الميليشيات وإدماج أفراده في المؤسسة العسكرية والأمنية ومحاربة الإرهاب وفرض الأمن في المدن بمساعدة قوات الشرطة.

وبالتالي تتوفر للقوى السياسية وقوى المجتمع المدني والشيوخ والأعيان الاجتماعيين فرصة التلاقي داخل ليبيا على أرضية حوار وطني (ليبي/ ليبي) لأجل التوصل إلى اتفاق إجماعي على خارطة طريق لمرحلة انتقالية تنتج دستوراً وانتخابات.