“لم أشعر بالسعادة وأنا أدخن الحشيش ولم أنسَ همومي” عبارة بادرنا بها محمد بن يحمد (24 عاماً) وهو يجهّز المكان ليبدأ السهرة المعتادة مع رفاقه ليلة الخميس 10 نوفمبر 2016، والمكان عبارة عن دار صغيرة مبنية في ركن بمزرعة تقع على أطراف مدينة سبها.

“لم أشعر بالسعادة وأنا أدخن الحشيش ولم أنسَ همومي” عبارة بادرنا بها محمد بن يحمد (24 عاماً) وهو يجهّز المكان ليبدأ السهرة المعتادة مع رفاقه ليلة الخميس 10 نوفمبر 2016، والمكان عبارة عن دار صغيرة مبنية في ركن بمزرعة تقع على أطراف مدينة سبها.

لايهتم محمد ورفاقه كثيراً بإخفاء رائحة الحشيش التي أثرت في معالم المكان، بينما يواصل حديثه معنا وهو يرتب الوسائد ويوقد النار ويتصل برفاقه، يطلب من أحدهم أن لاينسى العصائر، ومن آخر إحضار بعض المكسرات وأن يحتاط من الطريق المؤدي للمزرعة ليلاً، حيث يكثر قطاع الطرق ويجدون ضالتهم دوماً في مرتادي المزارع خارج المدينة ليلاً وخاصة ليلة الخميس من كل أسبوع.

علامات واضحة

يكمل محمد تجهيزاته ويجلس محاولاً أن يدعونا مازحاً لشرب الحشيش معه، تظهر علامات إدمان الحشيش واضحة على وجهه، فشفاهه مسودة وأسنانه مصفرة ولون عينيه أحمر داكن.

تبدو ملابسه حسنة المظهر قياساً برفاقه الذين بدؤوا في التوافد إلى المزرعة، أصغرهم حميد (21 عاماً) وأكبرهم علي (29 عاماً)، لم يستغربوا وجودنا معهم، “فقد تعودوا مشاركة وجوه جديدة في جلساتهم على الدوام” يقول بن يحمد.

يدمن بن يحمد شرب الحشيش منذ أربع سنوات، حيث كان أحد زملائه بكلية الآداب بجامعة سبها من أكبر بائعيه في الوسط الطلابي، يقول أن شرب الحشيش يعتبر علامة على الرجولة وتحدي المألوف، “كانت همومي تنحصر في إكمال دراستي والحصول على وظيفة جيدة، ولكن الأمور كانت تتعقد حتى صار صعباً عليّ فهمها والتعايش معها”.

يستمر “يقولون أن الحشيش يخفف الحزن وينسي الهم، ومع أني لم أنسَ الهمّ ولم يتحقق مبتغاي من وراءه، إلا أن لحظات المتعة في الجلوس مع الرفاق صارت هي المهمة والأكثر إمتاعاً مع مرور الوقت، نلتقي هنا كل أسبوع ونجد الراحة في هذه السويعات”.

رحلة الخميس

تبدأ رحلة الخميس عند بن يحمد في الخامسة مساءً، حيث يتوجه إلى مايسميه بـ”زنقة الكيف” وهو زقاق يقع بحي المهدية يوجد به أحد أهم بائعي الحشيش، كنا قد رافقناه إلى ذلك المكان، هناك يركن الزبون سيارته على مسافة معينة من مدخل الزقاق، ويدخل إليه في صمت، الصمتً يخيم بشكل واضح على المكان، فلا يسلم أحد على أحد، حتى العيون لا تتحدث، وبعض الداخلين للزقاق يتوجسون من الغرباء لأنهم لا يحبون أن ينتشر بين الناس أنهم من رواده.

عند وصولنا لنهاية الزقاق تقدم زبون وطلب بضاعته بهمهة لم نكد نسمعها، ولكن البائع حفظ زبائنه ومايريدون، وببعض الحركات الديناميكية تنتهي عملية البيع والشراء في مشهدية تشبه السينما الصامتة.

نخرج من زقاق الكيف لنستقل سيارة محمد، الذي لم يطق صبراً فقد أشعل “الكنشة” بعد أن أعدها بسرعة، ويبلغ سعر الكنشة 45 ديناراً، وهو سعر مرتفع جداً بحسب بن يحمد الذي كان يشتريها في البداية بعشرة دنانير، ولكنها تزيد مع مرور الوقت وارتفاع عدد الزبائن.

تدبير الأموال

في جلسة المزرعة كان حميد أصغر المشاركين فيها يستمع إلى حديث صديقه محمد باهتمام، حين سألناه كيف يتدبر الأموال التي يشتري بها ما يحتاجه من الحشيش، فكان جوابه سريعاً ومفاجئاً لنا، حيث امتهن حميد مع عدد من المسلحين السطو المسلح على المهاجرين الأفارقة.

يقول إن ذلك يعتبر أسهل طريقة للحصول على المال، فلا يحمل الأفارقة السلاح وغالباً ما يحملون أموالهم معهم في تنقلاتهم، الغريب أن حميد لا يشعر بالحرج أو الندم، ويعلل ذلك بأنهم يدخلون البلاد بدون إجراءات قانونية، ما يعني أنهم مجرمون في نظره.

حسين (25 عاماً) أحد السهرانين في ذلك اليوم يعمل على نقل المهاجرين في سيارته من حي الطيوري جنوب المدينة إلى حي عبدالكافي في شمالها، وهي رحلة بسيطة يتحصل منها على 70دينار يومياً، يقول إن “الأفارقة يرغبون في الانتقال لحي عبد الكافي حتى يتمكنوا من الهجرة للشمال، حيث توجد أغلب هناجر المهربين هناك”، وقد وفّر هذا العمل استقراراً مادياً نسبياً لحسين، وضماناً بعدم انقطاعه عن الحشيش الذي يدمنه منذ عامين.

التديّن لم يساعد

كان عبد السلام (22 عاماً) الأكثر غرابة بين رفاقه، حيث تظهر عليه علامات التدين بشكل لم نستوعب معه وجوده في هذه الجلسة، لحية كثيفة ومتشعبة وعلامة الصلاة ظاهرة على جبهته، حتى إنه كان الوحيد الذي صلى العشاء من بين رفاقه، ليعود بعدها لشرب الحشيش.

يعتقد عبدالسلام أنه غير مخيّر في إدمانه، ورغم أنه التزم دينياً كمحاولة منه للتوقف عن إدمان الحشيش لكن ذلك لم يحصل، “بدأت بالصلاة في المسجد ومتابعة الدروس الدينية وملأت وقتي بالكثير من الأمور التعبدية، ولكن ذلك لم يساعد في معالجتي” حسب قوله.

واضح أن رحلة بحثه عن العلاج لم تنسيه حلاوة هذه الجلسات التي يقيمها رفاقه في المزرعة، “المدينة مليئة بأخبار الموت والقتل والسطو، ولعل هذه المساحة بحشيشها وعزلتها صارت ملاذاً لنا، سواءً كان ما نفعله صحيحاً أو غير صحيح” يقول عبدالسلام.

جلسة هادئة

تعتبر الجلسة التي نشارك فيها هادئة إلى حد كبير مقارنة بما يحدث في جلسات الحشاشين بحسب بن يحمد، الذي يروي لنا أحداثاً كثيرة عن القتل والسطو والعراك الذي تشهده جلسات الحشيش في المدينة، فأغلب المدمنين على الحشيش مسلحون وأمزجتهم سهلة القياد وقريبة للعنف إلى حد كبير.

حيث لا ينسى محمد ما حدث من أحد أصدقائه الذي تناول جرعة أكبر من الحبوب المهلوسة وهو تحت تأثير الحشيش، وكانت النتيجة مأساوية حيث دخل بيته ليلاً وذبح أخته وهمّ بقتل أمه وأخته الأخرى قبل أن يدركه الجيران، كان ذلك أواخر العام 2014، ويعيش صديقه الآن ببيت أهله في حالة نفسية سيئة للغاية بعد أن أطلق سراحه إثر عفو والدته عنه أواخر سبتمبر الماضي.

يعتقد محمد أن حصوله على تعليم لا بأس به هو ورفاقه ساهم في التخفيف من حدة طباعهم، فلم تقع بينهم مشاحنات طوال جلسات الحشيش التي يرتادونها منذ أكثر من عامين، وهو ما انتبهنا إليه فقد مضت الجلسة هادئة ومؤنسة تماماً.

مع انتصاف الليل يصل الجميع لمرحلة الذروة وتكثر دعواتهم لنا بمشاركتهم السعادة التي يحسونها، يأخذ عبدالسلام في البكاء بصوت خفي ولكنه لم يستطع إخفاء دموعه، ويبدأ حسين في سرد قفشاته ومواقفه مع الأفارقة الذين يهربهم، بينما يستعرض حميد بعض الهواتف التي سطا عليها من المهاجرين مع رفاقه، بينما يحاول محمد إقناعهم بالاستماع إلى الراديو الذي يبث اغانٍ قديمة، وسط هذا المشهد ترتفع غيمة من الدخان الذي يخرج من صدورهم، وتملأ المكان همهتهم وضحكاتهم.

نترك الشباب وسط هذه الأجواء وقد اختلفت أسباب تواجدهم في هذا المكان وتوحدت طرق هروبهم من الواقع، مصير مجهول ينتظرهم تتقاذفه رياح السياسة والمجتمع والدولة الغائبة عن أحلامهم وطموحاتهم، والآمال الخائبة بتحسن قد يفضي بهم إلى شيء من النجاح والاستقرار.

“المرة الجاية بتشاركنا أنا عارف.. البلاد ما زال بتخرب وحتلقى روحك ادور فينا” هكذا ودعنا حسين ونحن خارجون من المزرعة، على أملٍ من جهته بلقاء ثانٍ نكون فيه مشاركين لا متفرجين فقط.

———————————————————–

ملحوظة : كل الأسماء الواردة في القصة غير حقيقية بناءً على طلب أصحابها