“بيع القطع الأثرية لمن يهتم بها أفضل من تركها مرمية في شحات دون أن يهتم بها أحد”. هكذا يبرر “خ.أ” ما يفعله من تهريبٍ لتلك القطع الثمينة في تجارة تأخذ بالاتساع شرقيّ ليبيا.

“بيع القطع الأثرية لمن يهتم بها أفضل من تركها مرمية في شحات دون أن يهتم بها أحد”. هكذا يبرر “خ.أ” ما يفعله من تهريبٍ لتلك القطع الثمينة في تجارة تأخذ بالاتساع شرقيّ ليبيا.

لا تزال آثار مدينة شحات (240 كلم شرق بنغازي) المعروفة تاريخياً باسم قورينا تتدفق بطريقةٍ غير مشروعة على أسواق التحف والآثار في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بل وتجدها حتى معروضة على المواقع الإلكترونية التي تهتم بعرض هذه المقتنيات الفنية ذات القيمة التاريخية، كما هو الحال مع موقع Royal Athena على سبيل المثال، والذي يعرض عدداً من القطع الأثرية الليبية التي تمت سرقتها ومن ثم تهريبها.

البيع بالإنترنت

بعد عدة محاولات وبصعوبة وافق مهرب الآثار “خ. أ” الذي عرّف بنفسه على أنه تاجر محلي من مدينة شحات على الحديث مع “مراسلون”. وبنوع من التحفظ حول عمليات البيع والشراء ونقل القطع الأثرية إلى الخارج يقول التاجر الأربعيني إنه يشتري القطع التي يجدها الملاك في أراضيهم، مبتعداً عن تلك المسروقة التي يتم تعميم فقدانها ومن السهل تعقبها. أما عن عمليات البيع فيذكر أنه يتعامل مع شخص أردني الجنسية موجود بالعاصمة عمان.

“خ.أ” يعرف جيداً المواصفات التي تجعل لعاب التجار الأجانب يسيل. وبالتفصيل يقول إن هناك نوعين من القطع الأثرية في شحات؛ نوع يسمونه الجنائزي وهو موجود بكثرة في المقابر، إلا أنه غير ثمين بسبب نحته غير الدقيق وتاجرنا المحلي لا يشتريه، فتجارة “خ.أ” في النوع الآخر المعروف باسم “الملكي” – وهي مصطلحات غير علمية – والمصنوع في الغالب من حجر المرمر، وهو دقيق النحت مكتمل التفاصيل ثمين ومرغوب، وعادة مايكون لشخصية معروفة أو إله إغريقي أو روماني.

سعر القطعة الملكية تبدأ من 2000 دينار (1530 دولار أمريكي) وقد تصل إلى 10 آلاف دينار (7650 دولار أمريكي). هذا السعر الذي يشتري به “خ.أ” من مواطني شحات. يقوم بعدها بعرض القطعة على التاجر الأردني عن طريق الإنترنت حيث يتفقان على السعر النهائي الذي لم يشأ ذكره لـ”مراسلون”، وبعد الاتفاق “أتصل بمهربين أعرفهم منذ سنوات طويلة في منطقة امساعد الحدودية مع مصر والمعروفين باسم – السلكاوية – لاستلام البضاعة وهنا ينتهي دوري”.

إرث متنوع

حسب ما جاء في كتاب “تاريخ ليبيا القديم” للدكتور عبداللطيف البرغوثي فإن هذه المدينة التي أسسها الإغريق عام 631 ق.م مرّت بحقب تاريخية مختلفة، وتوافدت عليها العديد من الحضارات المتعاقبة، بدايةً من العصر الملكي ما بين 631 ق.م إلى 440 ق.م، إلى العصر الجمهوري ما بين 440 ق.م إلى 323 ق.م، ثم تلى ذلك العصر الهلينستي ثم البطلمي ما بين 323 ق.م إلى 96 ق.م إلى العصر الروماني فالبيزنطي من 96 ق.م إلى 642 م، مروراً بالثورة اليهودية كحدث هام في قورينا من عام 115 إلى 118م ثم الفتح الإسلامي عام 642 م.

هذا التنوع الحضاري المذهل الذي مرت به المدينة عبر العصور سمح لقورينا بأن تمتلك مخزونا ثقافياً ومعمارياً وإرثاً كبيراً مدفوناً في ثراها وفي أحشاء وأعماق وديانها وسهولها وروابيها، لكن هذا المخزون يتم تهريبه بشكلٍ ممنهج إلى خارج البلاد حيث تعرض القطع القورينية في أهم المتاحف العالمية.

تاريخ التهريب

يقول أستاذ الآثار بجامعة بنغازي خالد الهدار لـ”مراسلون” إن أول عملية تهريب من هذه المدينة حدثت بين عامي 1826م و1827م، “وذلك عندما أرسل القنصل الإنجليزي هانمر وارينجتون رحلتين إلى قورينا، تم من خلالهما تهريب الكثير من المنحوتات والعملات إلى بريطانيا”.

بعد ذلك – حسب الهدار – قام نائب القنصل الفرنسي في بنغازي “فانتيه دي بورفيل” عام 1846 م بعمليات تنقيب على مدى شهرين، “ليرسل من قورينا العديد من الكنوز الأثرية التي لا تزال معروضة في متحف اللوفر في باريس حتى الآن”.

ويردف أستاذ التاريخ أن في عام 1860 قام الضابطان الإنجليزيان مردوخ سميث وإليوين بورشر بالتنقيب عن الآثار في قورينا طيلة 9 أشهر، “لينقلا إلى المتحف البريطاني أكثر من 148 قطعة أثرية، متوّجين مجموعتهما بالتحفتين المذهلتين تمثال باخوس والآلهة أبوللو”.

ومع دخول الإيطاليين إلى شحات عام 1913 بدأت مباشرة أعمال نقل الآثار إلى روما، والتي كان أهمها نقل تمثال فينوس “إلهة الجمال” لدى الرومان عام 1936 والذي تم استرجاعه عام 2008.

أما حديثاً فيذكر الهدار أنه تم اقتحام متحف شحات في مارس 1990 وسرقة خمسة رؤوس أهمها الحسناوات الثلاثة، وهي قضية قيدت ضد مجهول ولم تأخذ حقها في البحث والتحقيق، وتم استرجاع إحدى التحف المسروقة من سويسرا في نوفمبر عام 2001.

ولكن “أكبر السرقات في تاريخ ليبيا” يقول عنها الهدّار حدثت في نهاية عام 2011، حيث سُرق الكنز الذي اصطُلح على تسميته بـ”كنز بنغازي”، حيث استولى السارقون على وديعة مراقبة آثار شحات التي أودعتها بالمصرف في ستينيات القرن الماضي، وقُدّرت بأكثر من 6000 قطعة، منها عملات ذهبية لم يتم معرفة مصيرها إلى الآن، وقيدت كذلك ضد مجهول.

القائمة الحمراء

أبرز ماقامت به مصلحة الآثار الليبية بالحكومة المؤقتة لمتابعة الآثار الليبية المهربة للخارج كان دخولها للقائمة الدولية المعروفة بـ”القائمة الحمراء” في 1 آب/أغسطس 2016، والتي وضعها المجلس الدولي للمتاحف ICOM.

وعن ذلك يقول أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية لـ”مراسلون” إن القائمة الحمراء تحوي الخصائص والمميزات الفنية لتحف وقطع كل منطقة أثرية في العالم، وحسب كلامه فإن المصلحة استطاعت تحديد معايير وأنماط وطراز القطع الليبية في القائمة، فبعد عرض أي تحفة في العالم سواء في صالة عرض أو في موقع إلكتروني ومن خلال القائمة الحمراء يستطيع المهتمون معرفة مصدرها، فعندما تكون من شحات مثلاً طبقاً للقائمة الحمراء يتم حينها معرفة رقم القطعة، واسم وعنوان صالة العرض أو هاتف الشخص الذي يعرضها على الإنترنت، وتُعطى هذه المعلومات لمكتب الإنتربول في العاصمة الليبية طرابلس.

المساحة كبيرة

المنطقة الأثرية في شحات مترامية الأطراف وتبلغ مساحتها قرابة 40 كلم مربع، وتنتشر في هذه المساحات المقابر الدائرية والمحاجر ومعاصر الزيتون وبقايا قصور الإقطاعيين ذات القيمة التاريخية والفنية التي تحتاج إلى أمن وحراسة.

يقول “إسماعيل دخيل” رئيس قسم المتاحف بفرع المنطقة الشرقية بمصلحة الآثار وهو بالإضافة إلى ذلك مدير متحف شحات إن أعمال النبش والحفر تنتشر في الكثير من الأماكن وبعضها معروف لديهم، وآخر موقع تم نبشه هو حلق الأسطاوات (2 كلم غرب شحات) التي تضم مقابر إغريقية جماعية وفردية، ويصف دخيل العمل الذي قام به لصوص الآثار بأنه “عمل احترافي ينم عن دراية وخبرة”.

يضيف رئيس قسم المتاحف لـ”مراسلون” أن إرث المدينة يتسرب من دون توقف إلي أسواق التحف العالمية، حيث تردهم بلاغات بين الفترة والأخرى كان آخرها بلاغاً وصله من البروفيسورة الأمريكية سوزان كين من جامعة اوبرلين بأوهايو حسب كلامه، حيث أبلغته عضو البعثة الأمريكية التي عملت في شحات قورينا في الفترة ما بين عامي 1970 و1984 عن بيع قطعتين أثريتين في شهر مارس من عام 2015 في مزاد علني في نيويورك.

من المستحيل متابعة هذه الأنشطة يقول أنيس حامد مدير فرع المنطقة الشرقية بمصلحة الآثار، وذلك لأن القطع الأثرية يجدها البعض داخل حرم ممتلكاتهم ويبيعونها مباشرة، ولكنه ذكر أيضاً أن كثيراً من المواطنين يسلمون مايجدونه من مقتنيات، “لدينا تنسيق كامل مع الأجهزة الأمنية ومصلحة الجمارك في الرقابة على المنافذ، لكن المهربين لديهم أساليبهم الخاصة في التحايل والإفلات من الأمن” يقول.

غياب القانون

غياب تطبيق القانون مشكلة أخرى شجعت التجار والمهربين على تحدي قوى الأمن، مع أنه وحسبما يقول العقيد فوزي ونيس مدير جهاز الشرطة السياحية من طبرق شرقاً وحتى البيضاء غرباً، فإن القانون الليبي يجرّم ويمنع اقتناء أو امتلاك اللقية أو الأثر التاريخي الليبي الذي يعتبر ملكاً للدولة الليبية.

ولكن العقوبات المنصوص عليها في هذه الحالات تبقى غير رادعة في رأيه، فبحسب نص قانون رقم 3 لعام 1994 لحماية الآثار والمتاحف والمدن القديمة والمباني التاريخية في ليبيا؛ فإنه “يُعاقب بالحبس 6 أشهر وبغرامة مالية لاتزيد عن 5000 دينار ليبي كل من قام بإخفاء لقية تاريخية أو أثر تاريخي”، أمّا عقوبة سرقة الآثار فتصل أقصاها إلى السجن ثلاث سنوات وعشرين ألف دينار كغرامة مالية.

بالإضافة إلى ما سبق يعترف ونيس أنهم غير قادرين على أداء واجبهم على الوجه الأكمل في ظل نقص الإمكانات المادية واللوجستية، “وحتى عناصرنا غير مدربة جيداً”، وحسب قوله فإن دورهم لا يتعدى القيام بحماية المتاحف والمواقع المسيجة.

وكشف رجل الأمن أنهم استلموا مؤخرا بعض الإمكانيات من منظمة اليونسكو للمراقبة التي قال إنها ستعزز من قدراتهم لحماية المتاحف والمواقع الأثرية، “لكننا ما زلنا نحتاج الكثير”.