منذ تسعينيات القرن الماضي بدت القاهرة وكأنها تحتضر ولا أحد لديه القدرة على ابتكار طريقة لإنقاذها. جسد ضخم ككوبرا أسطورية تحبس بداخلها ملايين الأرواح. وجه القاهرة القاسي بدا مجردا، وهو لم يكن مفاجئا لأهلها، مدون في حكايات الدسائس والمؤامرات التي تشيع عادة في عواصم حكم البلاد المنهارة، في القصائد والروايات: “مدينة بلا قلب” مثلما وصفها الشاعر الستيني الشهير أحمد عبد المعطي حجازي.
منذ تسعينيات القرن الماضي بدت القاهرة وكأنها تحتضر ولا أحد لديه القدرة على ابتكار طريقة لإنقاذها. جسد ضخم ككوبرا أسطورية تحبس بداخلها ملايين الأرواح. وجه القاهرة القاسي بدا مجردا، وهو لم يكن مفاجئا لأهلها، مدون في حكايات الدسائس والمؤامرات التي تشيع عادة في عواصم حكم البلاد المنهارة، في القصائد والروايات: “مدينة بلا قلب” مثلما وصفها الشاعر الستيني الشهير أحمد عبد المعطي حجازي. لكن القسوة كانت قبلا تمتزج بجمال مغو، مستمد من التاريخ الطويل، وآثار من مختلف الاتجاهات: فرعونية وإسلامية وقبطية، وعادات لسكانها الذين جعلوا منها مدينة لا تنام، على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم.. هنا رجال الحكم والثقافة، الفنانون والراقصات، المتصوفة والسكارى، البلاد التي ذاب فيها رومان وعرب وشيعة، سارقو المال العام وفتيات الليل، الجوامع والمآذن، القاهرة التي يسميها الناس في بقية المحافظات: مصر، ربما لأن كل شيء فيها وليس عندهم.
لكن كل ذلك كان له أن ينتهي، الجمال يذوي، يختفي رويدا مع كل مبنى يشيد لاستيعاب الحشود الهائلة التي تتكاثر بلا قدرة حكومية على ضبطها، تغلف المدينة بأكملها سحابة من عوادم السيارات والمصانع وكأنها “جوثام سيتي” وقد امتلكها الشرير، القمامة في كل مكان، الحركة من نقطة لأخرى رحلة عذاب، وسائل المواصلات لا آدمية، والزحام دائم طوال اليوم.
القاهرة، ببساطة لم تعد مكانا صالحا للعيش فيه، والكل يعرف، الشكاوى تتردد في الأحاديث اليومية، أو عبر منصات المؤتمرات والندوات واللقاءات التليفزيونية الباحثة عن حل لكن بلا صدق، المدينة توقفت عن الإيمان بذاتها، وعن أن تكون مصدرا للخيال، المعجبون بها بدأوا يفقدون حماسهم للدفاع عنها أصبحت كابوسا للجميع، مواطنين وحكومات.
الحلول التي تم وضعها لمعالجة مشاكل القاهرة لم تكن أبدا بقادرة على إيقاف التدهور، الأحياء التي تكونت على أطرف العاصمة سرعان ما التحمت بالمدينة المنهكة لتزيد أعباءها، والأجيال الأولى من المدن التي تم إنشاؤها لتخفيف الضغط المتزايد على القاهرة (التي تضم في حوزتها محافظتين أخريين هما الجيزة والقليوبية)، التي لم يعد فيها حرفيا مكاناً لقدم، جميعها تقريبا ووفق أوراق خبراء العمران باءت بالفشل، تحديدا من مدن الجيل الأول، ومنها 10 رمضان (تقع على طريق القاهرة الإسماعيلية الصحراوي عند الكيلو 46 من القاهرة، وتتبع إداريا محافظة الشرقية)، السادات (تقع في شمال مصر، وتتبع إداريا لمحافظة المنوفية) 15 مايو (تقع جنوب شرق مدينة حلوان الصناعية وعلى بعد 35 كم من القاهرة) بعد سنوات من وجودها بات اسمها مدن الأشباح، لا يرغب أحد في الانتقال إليها، لأنه من البداية لم يتم التخطيط لها سوى باعتبارها أبنية معزولة عما حولها.
وسط هذا ومع بداية الألفية الثالثة بدأت تظهر للوجود مدينة القاهرة الجديدة، ومع توالي السنوات رسخت وجودها ليس فقط كحي سكني بل كمثال ونموذج على ما يمكن أن يكون عليه شكل الحياة، أدخلت المدينة الجديدة، التي يطلق عليها اختصارا “التجمع”، قيما ثقافية وعمرانية واستهلاكية مغايرة للمألوف، يمكن تقريبها إلى حي مصر الجديدة، الذي أنشأه قبل ما يزيد عن المائة عام البارون البلجيكي إدوارد امبان ( 1852 – 1929) كلاهما، الحى والمدينة، أصبحا قيمة عمرانية واقتصادية مضافة لكن مع الكثير من الجدل.
من لحظة البداية أسست القاهرة الجديدة أسطورتها الخاصة التي عرفها الناس بها، كان هناك إدراك من الشركات ورجال الأعمال لما يعانيه الناس في المدينة القديمة، فقدموا إليهم المشروع الجديد مثل حلم، كل الإعلانات التجارية بلا استثناء ركزت على الوجه القبيح للقاهرة القديمة، صورة لمواطن يعاني من الزحام والتلوث والأخلاقيات الضائعة في مدينته القديمة، ثم المواطن نفسه وقد انتقل إلى مكانه الجديد حيث الشوارع الواسعة والمساحات الخضراء التي لم يرها سوى في نزهات الأعياد بالحدائق العامة، الوجوه المبتسمة، والأمان وراء الأسوار وبوابات الأمن، لأول مرة تبدو القاهرة على شاشات التليفزيون الرسمي على حقيقتها بلا رتوش أو مساحيق تجميل، وهي التي لم تكن تظهر إلا في أحلى صورها يصاحبها موسيقى حالمة وأغان وطنية.
لم تكن حملة إعلانية بقدر ما بدت أشبه برؤية تبشيرية بأرض الميعاد، ولم يكن من الصعب الالتفات إلى الصبغة العنصرية في تلك الحملات، وربما خرجت بعض الأصوات معترضة، تحاول الدفاع عن المدينة العجوز، وعن ذكرياتهم فيها، لكن تلك الأصوات كانت رومانتيكية للغاية بجانب هدير أوناش البناء، مصر كلها في تلك اللحظة كانت قد دخلت عهد رأسمالية متوحش لا سبيل لإيقافه، زمن جمال مبارك وأحمد عز ورجالهما، ملايين تهرب من البنوك، بدء مرحلة التخلص من القطاع العام، والدولة تنفض يدها من الفقراء. زمن سادته سينما وأغنية الشباب التافهين على حساب أجيال كانت سيطرتها قد امتدت لعقود.
في الأوراق الرسمية لمدينة القاهرة الجديدة أن وراء إنشائها قرار جمهوري رقم 191 لسنة 2000، تقدر مساحتها بحوالي 70 ألف فدان، وتعتبر من مدن الجيل الثالث، تقع في القوس الشرقي للقاهرة، شرق الطريق الدائري في المسافة المحصورة بين طريق “القاهرة – السويس الصحراوي” وطريق “القاهرة – العين السخنة الصحراوي” منطقة يتواجد فيها الجيش بقوة، تجاور المطار، هي أقرب المدن للقاهرة، وتنافسها حجما حيث تماثل ما يقرب 75% من مساحتها، بانوراما تطل على قاهرة المعز من أعلى، ترتفع عن سطح البحر بحوالي 350 متر وعن الهضبة العليا للمقطم بحوالي 100 متر، ما ميزها بنقاء جوها، وانخفاض درجات الحرارة، خمس درجات أقل ما يجعلها لطيفة صيفا وشديدة البرودة في الشتاء. العام قبل الماضي كان حديث الصحف أن الثلج غطى التجمع بأكمله، وأحد عناوين الصحف كان يقول: “أجواء أوروبية تسيطر على القاهرة الجديدة”. لم يكن محض مجاز فالثلوج في ظهور نادر لها في مصر جاءت لتبرهن على رؤية البعض أن القاهرة الجديدة تسير وفق المعايير الأوروبية في إنشاء المدن.
رسمت ظروف النشأة الأولى العلاقة بين التجمع، كما يطلق على القاهرة الجديدة اختصارا، وبين المدينة القديمة التاريخية. العلاقة دائمة والمقارنة منعقدة. التجمع يعرف أنه بلا تاريخ فاستعار أسماء شوارع ومناطق من مدينته القديمة وأطلقها على نفسه. مثل وسط البلد ستجد هنا مثلا ميدان طلعت حرب، وبقية الزعماء التاريخيين الذين تحبهم الدولة على أسماء ميادين أخرى ومحاور رئيسية. أما الـ”كومباوندات” والتي تخاطب شريحة معينة فانتهجت اختيار أسماء غير مألوفة في مصر، الأندلس، ماونتن فيو، الرحاب، ليك فيو”. .
بعد أقل من 10 سنوات على وجودها باتت المدينة تنافس على مستوى الأسعار. لا يمكن مقارنتها إلا مع المناطق الفخمة في مصر الجديدة والمعادي ومدينة نصر والزمالك. ولم تكن في حاجة إلا لخمس سنوات أخرى ليذهب خبراء في المجال أنها أصبحت الأعلى سعرا في مصر. ويتداول الناس أن من اغتنم الفرصة في بدايتها كان محظوظا للغاية. الإعلانات التجارية التي تقيس بدقة ردود الأفعال في الشارع التقطت هذا التطور. صورت صحراء شاسعة لا حياة فيها ومواطن يرفض الفرصة المقدمة إليه فيها، ثم حسرته بعد سنوات على ما فاته وهو مازال في منطقة عشوائية.
القانون الذي وضع لتأسيس المدينة تم تنفيذه بلا خروقات تقريبا وهي معجزة في مصر، وبفضله قامت المدينة للحياة بسرعة. فالبند الأول ينص على مدة معينة للانتهاء من أعمال البناء بعد استلام الأرض، مع الالتزام بنسب معينة بين البناء والمساحات الخضراء، وهذا مع توحيد الشكل واللون في كل “كومباوند” على حدة، وهذا ينطبق على الجميع، سواء الوحدات الخاصة بالأغنياء، أو الوحدات التي بنتها الحكومة لمتوسطي الدخل، والتي تعرف باسم إسكان الشباب. وكانت النتيجة النهائية قدرا كبيرا من التناسق، صاحبه جودة في هيكلة المرافق العامة، وشوارع متسعة قادرة على استيعاب الحركة المرورية بسهولة، خاصة في ظل كثافة سكانية منخفضة، إضافة للبعد عن مصادر التلوث والضوضاء. في الوقت نفسه ترتبط مع المدينة الأم بطرق محورية سريعة لا يحتاج معها التنقل منها وإليها لوقت طويل.
إلى هذه المدينة جاء المستوطنون الأوائل ليؤسسوا “يوتوبيا” خاصة بهم، لكن كما يعرف العقلاء: لا وجود للجنة على الأرض.
في الأسبوع القادم: القاهرة الجديدة: رجال ونساء في الصحراء