لماذا ركب المجلس الرئاسي وحكومته طائرة عسكرية على عجل واستقر في تونس؟! تقول المعلومات الرائجة إن الأمريكان طلبوا من السراج ضرورة الخروج من طرابلس تلافياً لخطر محدق به وبمجلسه وحكومته. ثم ظهر مصطفى نوح (عضو الجماعة الليبية المقاتلة) مدير المخابرات الليبية ليعلن، بعد مهاجمة ميليشيا أمير الحرب هيثم التاجوري مقرات جهاز المخابرات والسيطرة عليها، أن جهازه كشف مخططاً إرهابياً لمهاجمة مقر رئاسة الوزراء لاغتيال رئيس المجلس الرئاسي.

لماذا ركب المجلس الرئاسي وحكومته طائرة عسكرية على عجل واستقر في تونس؟! تقول المعلومات الرائجة إن الأمريكان طلبوا من السراج ضرورة الخروج من طرابلس تلافياً لخطر محدق به وبمجلسه وحكومته. ثم ظهر مصطفى نوح (عضو الجماعة الليبية المقاتلة) مدير المخابرات الليبية ليعلن، بعد مهاجمة ميليشيا أمير الحرب هيثم التاجوري مقرات جهاز المخابرات والسيطرة عليها، أن جهازه كشف مخططاً إرهابياً لمهاجمة مقر رئاسة الوزراء لاغتيال رئيس المجلس الرئاسي.

وهكذا حط رجالات المجلس الرئاسي وحكومته في منتجع “قمرت” التونسي، تاركين طرابلس غارقة في الظلام والدينار يتهاوى على حافة خمسة دنانير للدولار والمسرحية العبثية “في انتظار السيولة” معروضة على مدار الوقت، يلعب بطولتها المعتاشون على رواتب الدولة الفاشلة حسب المعايير الموصوفة.

ثم تمكن مجلس النواب بطبرق من عقد جلسة مكتملة النصاب انتهت برفض منح الثقة لحكومة الوفاق المقدمة من المجلس الرئاسي وإعطائه فرصة لتشكيلة أخيرة. وقد قبل المجلس الرئاسي بتقديم تشكيلة جديدة. ولنفترض أن التشكيلة الجديدة نالت الثقة. هل ستخرج ليبيا من أزمتها السياسية والاقتصادية والأمنية؟! وهل ستمارس مهامها من طرابلس في أمن واستقرار؟! الواقع الملموس الذي تعيشه ليبيا لا يبشر بذلك.

إنها بلاد الحروب الصغيرة. داخل طرابلس التي هجرها المجلس الرئاسي وحكومته تتواجه قوتان ميليشياويتان. من جهة قوة الميليشيا السلفية بقيادة الشيخ عبد الرؤوف كارة المتحالف مع ميليشيا هيثم التاجوري وميليشيا عبد الغني إغنيوة ومن الجهة الأخرى قوة الجماعة الليبية المقاتلة وحلفائها من ميليشيات السلفية الجهادية في عديد المدن المحيطة بطرابلس. وفي نواحي البلاد يشعل أمراء الحرب حروبهم الصغيرة لأسباب ميليشياوية تنافسية أو لمصالح جهوية أو قبلية، التي تستعر وقد يهمد جمهرها لكنها لا تنطفئ.

شاهدناها بين ميليشيات الزنتان ومصراتة، الزنتان وككلة، الزنتان والمشاشية، ورشفانة والزاوية، قبيلة الزويّة وإثنيّة التبو في الكفرة، التبو وإثنيّة الطوارق في أوباري… وذلك داخل حرب كبيرة عنوانها الصراع على السلطة بين بقايا المؤسسة العسكرية المنهارة بانهيار نظام القذافي ويقودها الجنرال خليفة حفتر ويساندها مسلحون مدنيون، وبين ميليشيات إسلامية تسيطر على العاصمة طرابلس وتتحالف مع ميليشيات مصراتة القوة الضاربة في المنطقة الغربية.

ومع ذلك لا يزال السيد كوبلر يراهن على المجلس الرئاسي ما دام الأمريكان يدعمونه سياسياً، رغم أنه (المجلس الرئاسي) أصبح مشكلة سياسية بحد ذاته بدلاً من أن يكون حلاً. ولا يبدو، من قراءة سياق الأحداث ومآلها، أن يعمر اتفاق الصخيرات طويلاً. ومن المرجح أن يجري البحث عن بديل له بالنظر إلى ما ستسفر عنه الأحداث من صراعات الحروب الصغيرة بعد انتهاء معركة سرت.

الانتفاض الشعبي ضد الوضع الاقتصادي شبه الكارثي متوقع في أية لحظة في طرابلس. وفي أية لحظة قد ينشب صدام مسلح بين قوات الردع الخاصة التي يقودها الشيخ السلفي عبد الرؤوف كارة وبين ميليشيات متطرفة توالي المفتي الصادق الغرياني. وعندها قد تزحف القوات التابعة لحفتر في منطقة الزنتان والرجبان وورشفانة إلى داخل العاصمة.

وفي سرت صرح قادة مصراتة أن قوات عملية البنيان المرصوص ستبقى في المدينة بعد تحريرها من داعش وسوف يشكلون إدارة مدنية تتبع إدارتهم العسكرية. وإذا حدث ذلك فإنه من المحتمل أن يكون وصفة لنشوب صراع مسلح نتيجة لرفض سكان سرت لتواجد مسلحين من مصراتة في مدينتهم لما بين المدينتين من عداء ونزعات ثأرية بعد 17 فبراير 2011.

كما أن قوات الجنرال حفتر المحتشدة جنوب سرت لن تقف مكتوفة الأيدي، لا سيما أنها تضم في صفوفها عديد الجنود والضباط والمجندين المتطوعين من أبناء قبائل منطقة خليج سرت. علاوة على أن مقاتلي داعش سرت الذين فروا بأعداد كبيرة منذ بداية المواجهة، سوف يستمرون في حربهم الانتحارية من خلال خلايا صغيرة. والحال ما لم تسلم ميليشيات مصراتة إدارة شؤون المدينة، مدنياً وأمنياً لأهلها فإن حرباً صغيرة جديدة ستندلع بين قوات “عملية البنيان المرصوص” وقوات “عملية الكرامة” برسم من يسيطر على المدينة. ومن المحتمل بدرجة كبيرة أن تفرخ حرباً جانبية برسم السيطرة على الهلال النفطي المجاور لمنطقة سرت إلا إذا غيّر أمير الحرب إبراهيم الجضران ولاءه من المجلس الرئاسي في طرابلس لمجلس النواب في طبرق. وهو معروف عنه تغيير الولاء لمن يدفع رواتب ميليشياته ويحفظ له دوره.

وحسب موازين القوة العسكرية التي تميل لصالح قوات “عملية الكرامة” وبالنظر إلى الكراهية العميقة عند قبائل منطقة خليج سرت لميليشيات مصراتة، واعتبار قبائل برقة، حيث يقع الهلال النفطي ضمن إقليمها، أي تدخل عسكري لقوات قادمة من إقليم غرب البلاد غزواً لها، فإن هزيمة قوات “البنيان المرصوص” في سرت تبدو محتومة، في حالة استبعاد فرضية تدخل الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً ضد قوات الجنرال حفتر، الذي تعتبره رجل روسيا.

وهنا ينطرح السؤال: هل يمكن اجتراح حل يجنب البلاد المزيد من الصراعات الدموية؟! يبدو ذلك ممكناً إذا تصورنا إمكانية التفاهم بين الجنرال حفتر والقادة العسكريين النظاميين من مصراتة (وليس أمراء الميليشيات) على أساس مشروع وطني لشراكة سياسية ـ عسكرية تشمل شرق البلاد وغربها وجنوبها، وتؤمن الاستقرار الأمني للبلاد. لكن ذلك في الواقع تصور بعيد المنال نظراً لموقف ميليشيات مصراتة المعادي في الصميم لحفتر ومشروعه.

ولذلك من المرجح أن الحروب الصغيرة سوف تتناسل حتى تنحصر مع الوقت في حرب كبيرة، يكون فيها الاصطفاف واضحاً بين مشروعين سياسيين: مشروع الدولة الإسلامية ذات الولاية الدينية على الحياة السياسية ومشروع الدولة المدنية التي تحتكم إلى دستور ديموقراطي على النسق التونسي.