تحقيق  ـ خلود لواتي

استفاق (أمين)* من لامبالاة المراهقة ليجد نفسه في سن العشرين دون مسار واضح يوصله الى عمل بعد ان اختار ترك مقاعد الدراسة في مستوى التاسعة أساسي.

قضى أمين سنواته الاخيرة بين الترفيه وارتياد المقاهي والنوم، الى أن التقى صدفة أحد أصدقائه ليقترح عليه هذا الاخير التوجه الى معهد خاص و”شراء” شهادة مدرسية توفر له شروط الالتحاق بعمل يضمن له مستقبلا أفضل.

تحقيق  ـ خلود لواتي

استفاق (أمين)* من لامبالاة المراهقة ليجد نفسه في سن العشرين دون مسار واضح يوصله الى عمل بعد ان اختار ترك مقاعد الدراسة في مستوى التاسعة أساسي.

قضى أمين سنواته الاخيرة بين الترفيه وارتياد المقاهي والنوم، الى أن التقى صدفة أحد أصدقائه ليقترح عليه هذا الاخير التوجه الى معهد خاص و”شراء” شهادة مدرسية توفر له شروط الالتحاق بعمل يضمن له مستقبلا أفضل.

تقول الأرقام الواردة من وزارة التربية التونسية أن ظاهرة الانقطاع المبكر عن التعليم في تونس قد شهدت ارتفاعا كبيرا خلال السنوات الاخيرة.

ويبين بوزيد النصيري، المدير العام للتخطيط ونظم المعلومات في يوم دراسي تم بالعاصمة تونس في شهر آذار/مارس من هذا العام (2016) أن التعليم بمراحله الابتدائية والاساسية والثانوية يسجل انقطاع 100 الف تلميذ سنويا.

من جهتها قالت الباحثة هادية البهلول في ندوة عقدها مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية (حكومي) أن نسبة الانقطاع عن التعليم قد شهدت ارتفاعا خلال السنوات الاخيرة ما بعد الثورة لترتفع الى 10,5 بالمائة سنة 2013 بالنسبة للمرحلة الاعدادية فيما لم تكن الا حوالي 6,5 بالمائة سنة 1995.

هذه الاعداد الكبيرة المنقطعة عن التعليم في المراحل الابتدائية والاساسية والاعدادية تدفع الاف من الطلبة السابقين الى الجنوح أو الهجرة أو التطرف فيما يسلك اخرون طريق الاندماج في سوق الشغل بكل الوسائل ولو ادى بهم الامر الى “شراء” شهادات مدرسية مزوّرة كحال أمين، وهي ظاهرة مافتئت تنتشر في تونس في ظل صمت أو عجز السلطات التربوية عن مواجهتها.

الحصول على عمل

من أجل اثبات “امكانياته العلمية”ما كان لأمين الا أن يتوجه الى أحد المعاهد الخاصة بالعاصمة و”يشتري” شهادة مستوى تعليم باكالوريا. بعد شرائها انطلق هذا الشاب في رحلة البحث عن عمل والحال أنه لا يملك من المستوى الا تعليما اساسيا متواضعا.

من المهم القول أن شهادة الباكلوريا في تونس تمكن في غالب الاحيان من ولوج سوق الشغل لقيمتها العلمية المعتبرة وصعوبة الحصول عليها حيث بلغت نسبة النجاح في الباكلوريا في تونس هذه السنة ما يعادل 34 بالمائة سنة 2016 من مجموع المترشحين الذين بلغ عددهم 135 الف و612 تلميذ في كل الشعب العلمية والادبية.

بعد شرائه لشهادة الباكلوريا تحصل أمين على عمل في شركة مناولة ليعمل كحارس يتقاضى 300 دينار (150 دولار) شهريا وليعمل بعد ذلك كموظف بمصلحة التأمين بديوان الزيت مقابل 600 دينار شهريا. والمرتب الأخير هو أجرة معلم بدأ عمله بعد سنوات قضاها في مدرسة تكوين المعلمين بعد الحصول على الباكلوريا!.

المشتراة تختلف عن المزوّرة

“أمين” لم يكن الوحيد من بين اقرانه المنقطعين عن التعليم الذي تمكن من ولوج سوق الشغل بشهادة لم يبذل جهدا في الحصول عليها.

فقد استفحلت في تونس عقب ثورة 14 كانون الثاني/يناير2011 ظاهرة تزوير الشهادات العلمية باعتماد طريقة “الفوتوشوب” إذ كشفت وزارة التكوين المهني والتشغيل في آذار/مارس من سنة 2015 عن شبكة كاملة لتدليس وتزوير الشهادات الجامعية والمدرسية تورط فيها موظفون واداريون وكوادر عليا وقدرت الوزارة انذاك عدد الحالات بالآلاف ممن يتقدمون الى المناظرات المهنية.

أما بخصوص الشهادات المشتراة بالذات فانها بالنسبة للعارفين بتجارة الشهادات المدرسية الوسيلة الاكثر نجاعة وأمنا لان الوثيقة المزورة او المدلسة لا توجد لها في العادة نظائر أو أرقام تعادلها في أرشيف واجهزة وزارة التربية والتعليم، وهو ما يسهل عملية اكتشافها اذا وجدت ارادة التثبت في صحتها.

وبالنظر الى ارتباطها فقط بتوفر المال فقد انتشرت ظاهرة “شراء” الشهائد المدرسية وتمكنت معدة التحقيق من الوصول لاشخاص اشتروا شهادات مدرسية وهي عملية عادة ما تتم في المعاهد والمدارس الخاصة لصعوبة مراقبتها ورغبة أصحاب هذه المعاهد في الاثراء بأي طريقة ممكنة.

(أماني)* 22 سنة، التي وجدت نفسها دون عمل بعد انقطاعها عن التعليم بالسنة الأولى ثانوي هي حالة تمكنت من الوصول اليها معدة التحقيق. فقد تمكنت الفتاة من  شراء شهادتها المدرسية من معهد خاص عبر اقتراح من أحد أقاربها هذه المرة. وهو من دلّها على المعهد واشترى وثيقة تبين أنها درست فيه السنة الثانية والثالثة ثانوي، وكل ذلك مقابل 700 دينار (300 دولار أمريكي).

قررت “أماني” بعد ذلك مزاولة تعليمها بمركز تكوين يقدم دروسا وشهادات في اختصاصات متعددة منها الموضة والتصميم، الاقتصاد، الإعلام،السياحة. وتطلب ترسيم أماني في هذا المعهد ايداع نسخة من هذه الشهادة المتحصل عليها لدى المندوبية الجهوية للتعليم (ممثل لوزارة التربية) وهو الاجراء الذي قام به قريب اماني عبد لقاءه “بالمدام” (لفظة فرنسية تعني السيدة) على حد تعبيره، المكلفة باسداء “التسهيلات” في المندوبية الجهوية مقابل مبالغ مالية.

اتمام الصفقة

للتأكد من وجود هذه الآفة التي تنخر في جسد التعليم التونسي ، قامت معدة التحقيق بالتوجه الى مجموعة من المعاهد بالعاصمة للوقوف على حيثيات العملية “التجارية” التي تتم بين التلميذ واداريي هذه المعاهد.

انطلقت الرحلة من أحد المعاهد الثانوية الخاصة بجهة “باردو” المنطقة التي تحوي البرلمان التونسي. كان اللقاء في البداية مع موظف في مدخل المعهد، و لدى سؤلنا عن امكانية شراء شهادة مدرسية  أجاب بنفي وجود أي امكانية لذلك خاصة وأننا في بداية السنة باعتبار أن مثل العمليات تتم خاصة آخر كل سنة لكي تكون “معقولة”.

لم تكتف معدة التحقيق بموقف الموظف و طلبت مقابلة مدير المعهد شخصيا وهنا توصلت الى تأكيد الظاهرة حيث رحب بالفكرة واشترط انتظار نهاية الثلاثي الأول والاطلاع على الملف المدرسي. كما أكد انه سيتم ارسال بطاقة الأعداد كامل السنة للمنتفعة بصفة عادية.

تواصل العمل بنفس الطريقة مع تغيير الأماكن وكان هدفنا هذه المرة معهد ثانوي خاص بالعاصمة. لدى دخولنا المعهد اعترضنا أحد الموظفين ورافقنا الى مكتب القييمين وهنا كان حديثنا مع القيمة العامة حيث أكدت أن هذه العملية غير ممكنة نظرا لعدم احترامها للقانون وأجابتنا بالنفي لكل اقتراح قدمته لها معدة التحقيق شرط قبولها.

وقد تواجد في نفس المكتب موظف ثان كان يتابع بدقة المحادثة التي جمعتنا بزميلته. وعندما هممنا بالخروج من المعهد لحقنا هذا الأخير وعبر عن رغبته في المساعدة وأكد على قدرته على تمكيننا من شهادة مدرسية. كما قدم لنا الأسعار بعد استشارة “شريكه” في العملية عبر الهاتف والذي يعمل بالمندوبية الجهوية بولاية زغوان  مؤكدا على ضرورة اتمام “الصفقة” في كنف السرية باعتبار دقتها و”خطورتها”.

كانت الزيارات متنوعة في الأماكن و الشخص المنتفع والمستوى التعليمي المطلوب. وللاشارة أن موظفون ببعض المعاهد الخاصة رفضوا رفضا قاطعا اتمام مثل هذه العمليات و منهم من انسحب من الحوار.

النتيجة كانت مروعة وموثقة حيث اثبتت معدة التحقيق أن غالبية المعاهد الخاصة تقوم ببيع الشهادات بمالغ مالية

. لا يختلف الامر من معهد الى اخر الا في المبلغ المطلوب وطريقة دفعه أما من حيث الموافقة على “البيع والشراء” فالامر محسوم ولا يحتاج الا للتظاهر بالرغبة في شراء “البضاعة” تقول معدة التحقيق.

اختلفت اسعار “البضاعة” من معهد الى اخر غير انها تستقر في الغالب بحسب مستوى التعليم المطلوب  حيث تم  طرح مبلغ 800 دينار (400 دولار أمريكي) في كل مرة بالنسبة لشهادة “مشروعة و مصادق عليها” لمستوى الثالثة والباكالوريا، و600 دينار (300 دولار) لشهادة مدرسية بمستوى ثالثة ثانوي.

شراء الشهادات في التعليم الخاص في تونس يطرح ملف هذا القطاع مقابل قطاع التعليم العمومي الذي كان يمثل العمود الفقري للمنظومة التربوية منذ استقلال البلاد سنة 1956 قبل ان تتزايد اعداد المدارس والمعاهد الخاصة مع التوجه الليبرالي بعد فشل التجرية الاشتراكية (تجربة التعاضد) في سبعينات القرن الماضي.

وشهدت البلاد طوال العقود الثلاثة الأخيرة تزايداً مهما لعدد مؤسسات التعليم الخاص حيث بلغ عدد المدارس الابتدائية الخاصة بحسب اخر احصاء لوزارة التربية 97 مدرسة في كامل انحاء الجمهورية فيما بلغ عدد المعاهد والاعداديات الخاصة 287 مدرسة واعدادية. وكل ذلك تزامن بحسب مراقبين مع تدهور قيمة التعليم العمومي.

وتخضع المدارس والمعاهد الثانوية الى قانون وكراس شروط ينظم وجودها وتتبع وزارة التربية والتعليم اداريا وعلى المستوى البرامج حيث يقول الفصل رقم 9 من القانون الخاص المنظم لها “ان هذه المؤسسات تلتزم باعتماد وتطبيق البرامج الرسمية وشبكات التعلمات ونظام التقييم والارتقاء والنظام التأديبي المعمول بها بالمؤسسات التربوية العمومية”.

لكن  بوناً شاسعا يفصل بين ما هو نظري يضبطه القانون وهو ما هو واقعي، وقضية شراء الشهادات من المؤسسات الخاصة والتي هي موضوع هذا التحقيق اثبات على الاشكاليات الكبرى التي يعيشها هذا القطاع.

هل هذا كاف من أجل وقف الظاهرة؟

كان من المهم الاستماع الى وجهة نظر السلطات المشرفة على التعليم الخاص من أجل فهم ما يجري داخل هذا القطاع بخصوص “شراء الشهائد المدرسية”. هل تقوم وزارة التربية بالمراقبة اللازمة وبالتالي زجر كل التجاوزات الحاصلة؟

“عادل عميرة” مدير التدريس بالمرحلة الاعدادية والتعليم الثانوي العام و الخاص بالوزارة أكد أن “الوزارة تقوم بتفقد اداري و مالي وهو تفقد عادي يتمثل في زيارة مفتّش تعينه الوزارة للمؤسسة التعليمية بالتنسيق مع المندوب الجهوي بالجهة بهدف الاطلاع على بعض الأمور المالية والادارية”.

ويتابع السيد عميرة “بالنسبة للتجاوزات فإن الوزارة تقوم بالتحرك اثر شكاية من أي جهة ما للوقوف على الحقيقية، وذلك بعد الحصول على إن من الوزير، وقد سبق وكشفنا تدليس شهادة مدرسية بمعهد خاص بالحمامات وأدى الى اغلاق المعهد نهائيا”.   

بالإضافة للغلق يقول المعني بالامر أن مدير المعهد يعاقب حسب المجلة الجزائية باعتباره موظف شبه عمومي يتلقى أموالا مقابل تقديم امتيازات ويستغل نفوذه وذلك حسب الفصل 87 المؤرخ في 23 ماي 1988.

إذ ينص هذا الفصل على أن كل “شخص استغل ماله من نفوذ أو روابط حقيقية أو وهمية لدى موظف عمومي أو شبه عمومي ويقبل بنفسه أو بواسطة غيره عطايا أو وعود بالعطايا أو هدايا أو منافع كيفما كانت طبيعتها بدعوى الحصول على حقوق أو امتيازات لفائدة الغير ولو كانت حقا يعاقب بالسجن لمدة ثلاثة أعوام و بخطية قدرها ثلاثة آلاف دينار والمحاولة تستوجب العقاب”.

من الواضح ان كل هذه الترسانة الزجرية القانونية غير كافية لمنع هذه الظاهرة، وهو ما يعود ربما الى “غياب الموارد البشرية” الكافية المكلفة بالمراقبة بحسب المسؤولين في وزارة التربية.

بالتوازي مع هذا الرد الذي وصلنا من أحد المسؤوليين عن قطاع التعليم الخاص أكدت  لنا “الزقلي” المكلفة بشؤون المعاهد الخاصة بالمندوبية الجهوية التابعة لتونس لتونس 2 في حديثها عن الشهادات المدرسية أن الأمر يتعلق أيضا بظاهرة التزوير التي اشرنا اليها انفا في ثنايا التحقيق حيث تقول إنه “في كل عمليات التزوير التي تم التفطن لها كان التلميذ هو المسؤول وغالبا ما تكون باستخدام برامج الفوتوشوب وتدليس طابع المؤسسة التربوية”.

كما بينت أن المندوبية تكلف مجموعة من المتفقدين يصل عددهم إلى ثلاثة وتكون عادة من بينهم هي بتفقد المعاهد الخاصة ومراقبة سير الدروس والامتحانات والأمور الادارية.

كما أكدت المسؤولة “أنه تم تسجيل مخالفات بالمعاهد تمثلت عموما في ارتقاء بعض التلاميذ دون أن تتوفر فيهم شروط الارتقاء بالاسعاف وأهمها على أن يصل المعدل السنوي للتلميذ الى تسعة من عشرة”.

كما أكدت المسؤولة “أنه تم تسجيل مخالفات بالمعاهد تمثلت عموما في ارتقاء بعض التلاميذ دون أن تتوفر فيهم شروط الارتقاء بالاسعاف. يتمثل أهم شرط  في حصول التلميذ على معدل سنوي تسعة من عشرة وهنا يكون الاداريون وخاصة مدير المعهد  باعتباره المشرف على عمليات الارتقاء هو المتورط في هذه المخالفة ويتم بذلك تتبعه اداريا.    

من الواضح اننا ازاء قطاع كقطاع التعليم الخاص أحد اهدافه هي الربحية وهي أحد اشكالياته وهو الذي يفسر وجود ظواهر غريبة من قبيل “شراء” الشهادات التي كشفها هذا التحقيق.

الأكيد انه ومن خلال ردود المسؤوليين عن وزارة التربية أننا امام تحدي جديد وهو أنه  بالتوازي مع تراجع قيمة التعليم العمومي يلجأ الالاف من التونسيين الى التعليم الخاص غير ان هذا اللجوء الى هذا القطاع يبقى محفوفا بالمخاطر لطابعه الربحي بالنسبة للمشرفين عليه.

في هذا الباب بالذات تطرح مسؤولية الدولة وأساسا وزارة التربية والتعليم ودورها الرقابي في الموائمة بين الرغبة الربحية للمشرفين على القطاع وتعليم يؤمن مستوى تربوي وتعليمي جيد ويضمن المساواة في الفرص بين المواطنين وهو امر يتطلب محاربة كل مظاهر الفساد التي تنخر هذا القطاع ومن ضمنها ظاهرة “شراء الشهائد المدرسية”.

___________________________________

*وقع تغيير بعض الاسماء لدواع تطلبها التحقيق