تحقيق : مبروكة خذير (تونس)

أثارت قضية الشقيقتان التونسيتان “رحمة” و”غفران” الشيخاوي اللتان التحقتا بتنظيم داعش في ليبيا الكثير من التساؤلات حول انخراط فتيات تونسيات في التنظيمات الارهابية واستعدادهن “للهجرة” الى ما يسمينه “أراضي الجهاد”.

تحقيق : مبروكة خذير (تونس)

أثارت قضية الشقيقتان التونسيتان “رحمة” و”غفران” الشيخاوي اللتان التحقتا بتنظيم داعش في ليبيا الكثير من التساؤلات حول انخراط فتيات تونسيات في التنظيمات الارهابية واستعدادهن “للهجرة” الى ما يسمينه “أراضي الجهاد”.

ففي بلد عرف بكونه أحد ابرز البلدان العربية المصدرة “للجهاديين” أصبحت مسألة هجرة الفتيات هاجسا كبيرا للسلطات الامنية المحلية. غير أنه وخلافا للرائج فان “هجرة” التونسيات الى أراضي الجهاد لم تكن بالضرورة بسبب القناعة الايديولوجية أو الدينية بقدر ما كانت في الرغبة عن بحث عن شريك حياة.

هذا التحقيق الذي أعده موقع “مراسون” يكشف كيف أصبحت الرغبة في الزواج بالنسبة لطابور النساء العازبات في تونس طريقا للالتحاق بـ “داعش”.

إلى الحاجز الترابي

لم تكن طريق الجنوب التونسي وعرة بالنسبة لي وأنا التي طفتها من قبل غير مرة. طريق طويلة لم تعترضنا فيها بين مدن قبلي وجربة وتطاوين ومنها الى قرية رمادة الصحراوية على الحدود الليبية سوى بعض دوريات الأمن القليلة والتي نادرا ما استوقفتنا واستوقفت العابرين أمام حواجز التفتيش.  

على حافتي الطريق يمينا ويسارا انتشرت معلبات وبراميل البنزين الصغيرة المهربة من ليبيا. ازدادت تجارة البنزين المهرب على الرغم من اقامة الحاجز الترابي الذي يفصل بين البلدين والذي تم الانتهاء منه في شهر شباط/فبراير 2016.

ساتر كان يفترض أن يخفف من كميات السلع المهربة من ليبيا كما كان من المفترض أن يوقف نزيف “المهاجرين” و”المهاجرات” الى اراضي الجهاد في ليبيا أو القادمين من هناك للقيام بعمليات ارهابية هنا، غير أن كل المؤشرات تقول بأن هذا النزيف ما زال متواصلا.

في الحقيقة، هذه المرة الثانية التي أزور فيها قرية رمادة على التي توجد على مقربة من الساتر الترابي. فقبل الانتهاء من بنائه وتحديدا في شهر تموز/يوليو من سنة 2015 استفاقت القرية على ما اعتبر أكبر عملية هجرة جماعية لشبابها وشاباتها في اتجاه المناطق التي يسيطر عليها ما يعرف بتنظيم الدولة الاسلامية المعروف اختصارا بداعش (الفرع الليبي). تمكن ثلاثة وثلاثون شخصا من ضمنهم خمس نساء من العبور خلسة الى ليبيا والالتحاق بالجماعات المتطرفة هناك.   

واذا كانت هجرة الشباب ليست بجديدة فان تزايد هجرة الفتيات والتحاقهن بالاراضي التي تسيطر عليها الجماعات المتطرفة سواء أكان الأمر في ليبيا أو سوريا أو العراق يطرح السؤال حول عوامل الجذب التي تدفع هاته الفتيات إلى “الهجرة” وهل أن الأمر يتعلق بالحافز الايديولوجي فقط كما هو الأمر بالنسبة للفتيان والرجال.

من خلال العديد من الشهادات التي سترد في هذا التحقيق يتبين أن هجرة غالبية الفتيات والنساء الى المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المتطرفة كانت لأسباب “عاطفية”، إما بحثا عن زوج أو من أجل الالتحاق بزوج سبق زوجته وهيأ لها ظروف قدومها واستقرارها، وهو الأمر الذي تأكد أيضاً عبر سيرة العشرات من “الجهاديات” التونسيات.

“أبحت عن الرجل الصالح”

في ولاية تطاوين عثرت على بعض نماذج تحقيقي، حيث بدأت متابعة القصة بفتيات متدينات عرف عنهن التزامهن ارتداء النقاب والانضمام إلى مجموعات دعوية تستقطب ما تيسر من الفتيات والنسوة. كان هذا هو الظاهر على الأقل. لباس شرعي وتردد على المساجد والحلقات الدعوية.

لا تكاد تخلو قرية من قرى الجنوب من مجموعة من أمثال هؤلاء الفتيات اللواتي يظهرن تدينهن ولا يخفين تحمسهن لنصرة “المستضعفين”.

ولكن من المهم القول إن وراء كل قصة من قصص الحماس للجهاد ونصرة المسلمين بالنسبة للفتيات هناك أمر اخر و”حلم” خفي عاطفي وهو اما الالتحاق بزوج مستقبلي تحدثت معه وتواعدت عبر الانترنت او الالتحاق بزوج سبق زوجته وأعد لها العدة للاستقرار في الاراضي التي يسيطر عليها “الاخوة” هناك.

في منطقة اسمها “الرقبة” من ولاية تطاوين عرفت بعض العائلات حكايات فتيات التحقن بأزواجهن في ليبيا واخريات “يحلمن” بلقاء حبيبهن الداعشي.

مريم .ش واحدة من عشرات الفتيات الملتزمات، وجدت بعد الثورة ما يكفي من الحريات السياسية لتكثف نشاطها ثم لتلتحق بمجموعة في منطقة الرقبة يرتدين كلهن النقاب ويلتقين في المسجد.

في المسجد تعرفت مريم.ش على سيدة تدعى سميرة .غ لتصبح المجموعة أكثر توسعا ويتضاعف نشاطها في استقطاب فتيات أخريات. طبعا العمل الدعوي هنا يسبق ما هو أهم وهو البحث عن “الرجل الصالح” فيما بعد.

بعد أن تعمقت الفتيات في علوم الدين في حلقات الذكر بدأت الخطوة التالية في البحث عن زوج من المجاهدين، رجل تتوفر فيه صفات “الرجل التقي النقي الصالح” بحسب تعبيرهن.

البداية كانت مع سميرة .غ التي تزوجت من شيخ في علوم الشريعة موريتاني الجنسية قرر الاستقرار في ليبيا في الاراضي التي تسيطر عليها الجماعات الدينية المتطرفة على الشريط الساحلي الليبي شمالاً.

عارضت سميرة رفض عائلتها وأصرت على مغادرة قرية الرقبة لتتزوج من” الشيخ” هناك في ليبيا. زواج انقطعت أخباره وتقطعت سبل معرفة الغرض منه، بين تونسية وشيخ موريتاني لم يزر يوما تونس ولا تعرف عنه عائلة سميرة شيئا سوى أنه “شيخ في علوم الشريعة”.

افتتحت سميرة في منطقتها سلسلة الزيجات الغريبة الأطوار والتي تمت بين بين فتيات تونسيات و”شيوخ” الشريعة في الأراضي الليبية.

من جهتها تعرفت مريم عبر الانترنت على رجل مغربي قيل لها ولعائلتها انه ممنوع من دخول تونس والمغرب وانه مستقر الآن بليبيا فعارضت مريم عائلتها هي الاخرى والتحقت به هناك ما أثار غضب والدها الذي لم يكن راضيا عن هذا النوع من الزواج.

النسبة الأعلى مغاربياً

كان الانترنت وسيلة الزيجات “الجهادية” التي عمت منطقة الرقبة من ولاية تطاوين. زيجات عادة ما تتم بسرعة لتغادر العروس بعدها فجأة بيت والديها وتلتحق بالزوج في ليبيا عبر شبكة المهربين المنتشرين على الحدود.

واذا لم تلتحق الفتاة ببعلها عبر التهريب فان من تبقى منهن تبحث لها عن زوج تونسي يستعد بدوره للسفر الى ليبيا.

حالة هاجر بن .ص هي نموذج لهاته الفتيات. فهاجر المتحصلة على شهادة دراسة جامعية بتونس العاصمة بقيت عاطلة عن العمل لفترة في مدينة تطاوين لكنها خيّرت الالتحاق بمجموعة المنقبات لتجد بغيتها في الاقتران بشاب سلفي في حلقات السلفيين في الجهة.

بعد فترة وجيزة من عقد القران طالب زوج هاجر عائلتها باصطحابها معه الى ليبيا وهو مطلب لاقى رفضا من أهلها. غير أن زوجها الذي لم يقم حفل الزواج جلب “أخوته” من السلفيين وهاجموا بيت العائلة مجبرين أهل الفتاة على اتمام مراسم الزواج ومده بزوجته فاضطرت العائلة لتفعل ذلك على جناح السرعة درءا للمشاكل.  

بعد فترة وجيزة فوجئت أسرة هاجر بان ابنتهم تحولت مع زوجها الى ليبيا حيث قتل الزوج وترك لهاجر طفلا صغيرا. ولا يستبعد أحد أقاربها التقاه موقع “مراسلون” وطلب عدم ذكر اسمه، أن يقع تزويجها “لمجاهد” آخر وهي العادة التي تعتمدها التنظيمات المتطرفة في غالب الاحيان.

خامس الحالات التي تعرضت لها معدة التحقيق هي حالة عفراء .ش. هاته الفتاة التي انضمت بدورها إلى الأخوات المنقبات فوقع تزويجها من سلفي ولما أرادت السفر معه لليبيا عارضها أهلها بشدة فتحدتهم وغادرت تاركة وراءها سخط والدها الذي قاطعها وطلب من كافة العائلة مقاطعتها.

ووسط تكتم شديد من عائلات تطاوين ورمادة حول تفاصيل هذه الزيجات علمنا ان عفراء اتصلت منذ فترة ليست بالبعيدة بوالدتها وأخبرتها ان زوجها في السجن وهي تعيش الآن بليبيا ولها ابن، وقد وكلت محامياً للدفاع عنه.

في المقابل سلكت زوجة بشير بن يحي الشاب التونسي من رمادة طريق زوجها فقد غادرت معه التراب التونسي ضمن مجموعة الثلاثين التي اختفت مع مجموعة قرية رمادة الشهيرة في محافظة تطاوين جنوبي تونس في ظروف غامضة.

من الواضح أننا أمام نماذج متعددة لفتيات تمردن على سلطة ابوية ضاربة في القدم في قرى تطاوين المحافظة التي مازالت تدين بسلطة الرجل وجبروته، لا استجابة للقناعات الايديولوجية أو الدين ولكن في الغالب رغبة في الارتباط والزواج والخروج من وضعية العزوبية التي تعتبر في تونس ظاهرة هي الاعلى في المنطقة العربية بأكملها.

تقول أرقام رسمية أصدرها ديوان الوطني للاسرة والعمران البشري أن نسبة النساء العازبات في تونس بلغ 62 بالمائة وتقول الارقام أن عدد الفتيات العازبات في تونس هو الأعلى مغاربياً حيث بلغ ما يعادل مليونين وربع المليون عازبة من جملة أربعة ملايين و 900 الف فتاة في سن الزواج.

الأكيد ان ارتفاع هذه النسبة يدفع المئات من الفتيات التونسيات إلى البحث عن حلول من قبيل الهجرة الى الخارج أو الانضمام الى تنظيمات متطرفة بغية الارتباط وايجاد زوج وهو الذي يفسر أن غالبية المنضويات في هذه المنظمات اعمارهن تتراوح بين 18 و 23 عاما قامت غالبيتهن بقطع علاقاتهن بعائلاتهن من أجل الحصول على زوج تحت ذريعة “الجهاد في سبيل الله”.

700 تونسية وصلن إلى أرض “داعش”

فرضية التحاق الفتيات التونسيات بالتنظيمات المتطرفة بغية الحصول على زوج أكدتها العديد من شهادات عائلات الفتيات اللاتي التحقن بداعش وهو الامر الذي يؤكده أيضاَ مختصون من قبيل بدرة قعلول، رئيس المركز الدولي للدراسات الإستراتيجية والأمنية والعسكرية التي قالت لنا انه يوجد طرق ثلاث لالتحاق النساء في تونس بالمجموعات المقاتلة في ليبيا.

“فهناك من تذهب مع أطفالها صحبة زوجها، أو أن يذهب الزوج ويهيء الأرضية ثم تلتحق به الزوجة والأطفال، أما الطريقة الثالثة فهي الإبحار عبر الانترنت و زيارة الصفحات الجهادية؛ حينها تتعرف الفتاة على شباب  تتعلق به قصد الزواج في مرحلة أولى ثم يتم التنسيق  لتعبر الفتاة أرض الوطن نحو أخوات في ليبيا ثم بواسطة شبكات متخصصة ومترابطة يستخرج لها جواز سفر مزيف وتعطى لها كنية جديدة ثم عند وصولها إلى تركيا تجد من ينتظرها لتعبر الحدود ثم تبقي فترة شهر أو أكثر حتى يتم الزواج”.  

تضيف بدرة قعلول أن العملية عادة تمر بهذه الطرق الثلاث لدى أغلبية التونسيات اللواتي التحقن بالتنظيمات الجهادية المقاتلة وتنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية على وجه الخصوص غير أن هناك أقلية من الفتيات اللاتي تذهبن كمتطوعات في ما يعرف “بجهاد النكاح” بحسب رأيها.

وتفيد الإحصائيات الرسمية التي صرحت بها وزارة المرأة التونسية أن 700 تونسية التحقن بجماعات جهادية في سوريا والعراق وليبيا، بما يشي بان التوجه نحو توظيف المرأة في خلايا التنظيمات الجهادية أصبح أمرا مطروحا بشدة.

وتفيد تقارير أمنية أن التوجه نحو الاستفادة من دور المرأة وجعلها شريكا في ما يعرف بالجهاد أصبح توجها ملحوظاً منذ بداية منتصف العام 2014.

وفضلا عن رابط الزواج والرغبة في تحصيل زوج تلعب الظروف المادية القاسية التي تعيشها العديد من الفتيات في الجنوب دورا مهما في التحاقهن بالتنظيمات المتطرفة. وتقول بدرة قعلول في هذا السياق “نحن اليوم نعيش أوضاعاً اضرت بالاقتصاد التونسي وجعلت من شبابنا ذكورا وإناثا حطبا لنار مجهولة”.

ومن المهم القول هنا أن التنظيمات المتطرفة تستفيد من جهتها بهذا الزخم الانثوي القادم اليها لا من أجل تزويجهن للمجاهدين فحسب بل أيضا لتكليفهن بأدوار أخرى كالاتصال عن طريق الانترنت والدعم اللوجستي وهو الامر الذي ثبت في العديد من العمليات الارهابية التي وقعت في تونس في السنتين الاخيرتين.

الأميرة والأمير

من الواضح ان الجماعات المتطرفة فهمت جيدا الأدوار التي يمكن ان تلعبها الفتيات المقبلات على التنظيم بغية الزواج وايجاد بعل لهن كما أوردنا انفا. فبمجرد أن تنضم الفتاة ويقع تزويجها تصبح بدورها بعد شحنها عقائديا اداة لاستقطاب غيرها من الرجال والنساء.

مثل هذا الدور قامت به مثلا فاطمة الزواغي المعتقلة في الوقت الحالي بسجن النساء بالمنوبة غرب العاصمة.

فاطمة التي عرفت بعلاقتها بلقمان أبو صغر القيادي في كتيبة عقبة بن نافع ( قتل في آذار/مارس 2015) فعلت الكثير من الاشياء من أجل إرضاء قائدها.

فقد أسست الزواغي صفحة على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك تحت اسم “حماة الديار” وحرضت طوال أشهر عديدة على قتل العسكريين وأعوان الامن. عملت الزواغي تحت امرأة لقمان ابو صغر وكانت سببا بحسب اعترافاتها لرجال الامن بعد القبض عليها في استقطاب العديد من الشباب التونسي.

الزواغي التي فقدت اليوم والى الأبد قائدها وملهمها المقتول لقمان أبو صخر ما زالت وبحسب الشهادات تحلم حتى داخل زنزانتها بدولة الخلافة في تونس وبان تكون قيادية في امارة اسلامية يحلم بالوصول اليها المتشددون من جماعات اسلامية وتدين بالولاء لما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية.

أثبتت التحقيقات أن الفتيات وبمجرد دخولهن الى التنظيم وتزويجهن من عناصره يصبحن أدواة طيعة ومنقادة لأوامر القيادات ومستعدات للقيام بأي شي من أجل ارضاء أزواجهن وقيادات التنظيم وهو الأمر الذي بينته التحقيقات مثلا في خلية “داعش” النسائية التي وقع كشفها في شهر تشرين ثاني/نوفمبر 2015 في منطقة الكرم شمالي العاصمة والتي كانت على صلة بسيف الدين الجمالي المعروف باسم أبي القعقاع الذي يُعد واحدا من أبرز مسؤولي الجناح الإعلامي لتنظيم “جند الخلافة” والذي ينشط في جبل مغيلة في وسط البلاد.

في السياق نفسه لا يزال التونسيون يتذكرون القتال بشراسة الذي اظهرته خلية وادي الليل (غرب العاصمة تونس) النسائية المكونة من فتيات تترواح أعمارهن بين 18و21 سنة. لقد قاتل كل من أسماء البخاري وأمينة العامري وإيمان العامري وهند السعيدي وبية بن رجب حتى الموت بالاسلحة الرشاشة في تشرين أول/أكتوبر من سنة 2014.

أثبتت التحقيقات فيما بعد أن “أيمن” وهو أحد الارهابيين المشرفين على خلية وادي الليل متزوج من ثلاث فتيات وقعن في حبه من ضمن العشرة اللاتي تضمهن الخلية، وقد قاتلن من أجله حتى النهاية.

خلية وادي الليل النسائية وقبلها قصة فاطمة الزواغي وبالمثل لنساء قرى ولاية تطاوين الحدودية هي نماذج لنساء بحثن عن “الرجل الصالح التقي النقي” ليقتنعن بأفكاره وليمضين وفاءا له ولطريقته في الحياة حتى لو كانت طريقاً إلى الموت.