تستيقظ ميرفت- ربة منزل- في السابعة من صباح كل أحد، في إحدى العمارات السكنية بمنطقة فيصل لترتب متعلقات الزيارة الخاصة بابنها خالد (20 عاما) المحبوس احتياطيا على ذمة قضية “حركة شباب 25 يناير” بسجن الجيزة المركزي، الذي يقع بالكيلو 10 ونصف على طريق مصر إسكندرية الصحراوي، غربي القاهرة.

تحتاج السيدة ميرفت إلى ساعتين لترتيب حقائب الزيارة من ثياب نظيفة وأطعمة جافة لتصمد أطول فترة في حر أغسطس، تتنقل بحقيبتين بين 3 مواصلات خلال الساعة ونصف القادمة لتصل إلى سجن الكيلو عشرة ونصف، حوالي الحادية عشر صباحا، تنتظر السيدة ميرفت 3 ساعات إضافية في أماكن انتظار غير مريحة تم انشاءها حديثا على حساب أهالي المساجين بحثا عن الظل. إذ يدفع الأهالي 75 جنيه كل زيارة لتغطية أعمال الصيانة بالسجن.

تختلف جرعة التكدير والتفتيش التي تتعرض لها السيدة ميرفت وحقائبها على حسب اختلاف ضابط الحرس الموجود، تشتكي من معاملتها أحيانا كالمجرمين. “الطعام الذي أسهر على تحضيره طول الليل يصبح غير قابل للتناول في الصباح بعد التفتيش” تقول.

تصل ميرفت أخيرا إلى حوش كبير، يقسم الحوش سور طويل من السلك ليفصل بينها وبين خالد، تقابل ولدها الوحيد لمدة نصف ساعة فقط.

“احنا مبنعملش حاجة غلط”

تم القبض على خالد فجر يوم 30 ديسمبر 2015، بأمر ضبط وإحضار من أمن الدولة، خلال فترة امتحانات الفصل الأول للفرقة الثانية لطلاب كلية الحقوق جامعة حلوان، وتم تفتيش بيته والتحفظ على اللاب توب الخاص به كحرز في القضية.

خالد عضو بحزب العيش والحرية (تحت التأسيس)، تم اتهامه بإنشاء تنظيم على خلاف أحكام القانون تحت اسم “حركة يناير”، ضمت القضية رقم 796  لسنة 2015 حصر أمن دولة عليا 10 متهمين، تم إخلاء سبيل 8 منهم في مارس 2016، وبقى خالد وسيد المحبوس احتياطيا على ذمة القضية ذاتها.

حين قامت ثورة 25 يناير 2011، كان خالد طالباً في السنة الدراسية الأولى من المرحلة الثانوية، تقول أمه انها كانت ترفض اهتمام ابنها بالسياسة في سن صغيرة، ولكنه كان يقول “احنا مبنعملش حاجة غلط”. تحكي ميرفت ان نشاط خالد في الحزب كان نشاط اجتماعي يقتصر على مساعدة الناس، وأنها لا تذكر أنه ذهب لمكان الحزب أكثر من 3 مرات في حياته.

لم يستطع خالد حضور امتحان مادة القانون المدني من الفصل الأول بسبب الوقت الزمني التي احتاجته إجراءات الامتحانات في النيابة. مكث  خالد  أول 5 شهور من مدة حبسه الاحتياطي غير المعلومة في قسم بولاق الدكرور.

تصف السيدة ميرفت هذه الفترة بالصعبة جدا، “كنت أزور خالد 3 مرات أسبوعيا، أحد وثلاثاء وخميس، زيارات الأقسام أكثر ولكنها بلا طائل، في كل زيارة كنت أدفع 200 جنيه لأمين الشرطة حتى أتمكن من حضن ابني، يوجد بالزنزانة 40 نفر ومن فتحة شباك صغير وخلال ساعة واحدة يجب أن يناول الأهالى المحبوسين كل ما يحتاجوه في دقيقة واحدة”.

النوم واقفا

تقول ميرفت ان المشكلة ليست في المجهود الذي تبذله لتحصل على الملازم والكتب الدراسية، ولا حتى في إدخال الكتب الدراسية لخالد، تكمن المشكلة الحقيقية في النوم، حتى يجد الانسان مساحة للنوم يجب أن يقف غيره، لا يوجد نوم في زنازين الأقسام، والمذاكرة فعل لا وجود له خلف القضبان. خلال هذه الظروف خاض خالد امتحانات الفصل الدراسي الثاني، في لجنة مخصصة بسجن طرة.

بعد انتهاء خالد من امتحاناته تم نقله إلى سجن الكيلو عشرة ونصف، تتحسس ميرفت أحوال ابنها، في السجن يوجد مساحة كافية للنزلاء  للنوم ولكن “مينفعش تتقلب برده”.

عند سؤال السيدة ميرفت عن إطلاعها على لائحة مصلحة السجون الداخلية، قالت انها تراها معلقة على باب السجن ولكنها لا تنتبه إليها، فهي تعرف جيدا أن أهم شئ هو الحاويات البلاستيكية، وأن كل ما هو معدني ممنوع، ولكنها تشتكي من أن إدارة السجن منعت مؤخرا دخول المياه الغازية والعصائر، وتفسر ذلك بأن إدارة السجن ترى أنه من الممكن شراء هذه المشروبات من كانتين السجن، بأسعار سياحية بالطبع.

الحبس الاحتياطي كعقوبة سياسية

لا يوجد تعريف محدد للحبس الاحتياطي في التشريع المصري، تقول المحامية هدى نصر الله المحامية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية في تقريرها الأخير “حبس بلا نهاية” : “وقع المئات في دوامة الحبس الاحتياطي، ولا توجد وسيلة للطعن على قرارات قضاة محاكم الجنايات بحبس المتهمين احتياطيًّا أكثر من عامين، ولا سلطة على القضاة في تفسيرهم للقانون عند اختلافهم في تطبيق نصٍّ، سوى المحكمة الدستورية العليا التي تعود إلى قصد المشرع عند إقراره للنص. فقد تحول الحبس الاحتياطي إلى أداة عقاب سياسي دون محاكمة أو حق في الدفاع”. يرصد التقرير وجود  1464 شخصاً محبوس احتياطيا في السجون المصرية وتعدت مدة حبسهم الاحتياطي المدة القانونية، بالمخالفة للمادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية، التى وضعت حدًّا أقصى للحبس الاحتياطي يتراوح بين 18 شهرًا وعامين في الجنايات. يمثل هذا العدد عدد الحالات التي استطاعت المبادرة المصرية التأكد منها في أربع محافظات فقط.

لا يرتدي المحبوسين احتياطيا على ذمة قضايا البدلة الزرقاء، بل مسموح لهم بثياب عادية، غير مسموح لهم بأي بزيارات استثنائية، الزيارة العادية هي زيارة أسبوعية لمدة 45 دقيقة بالنسبة للمحبوسين احتياطيا، كما تنص لائحة تنظيم السجون على منح حق الزيارة الاستثنائية في الأعياد الرسمية التي تشهد إجازات مدفوعة الأجر وتشمل الأعياد الدينية والمناسبات القومية.

 غير مسموح للمحبوسين احتياطيا برفاهية التريض مثل المحكوم عليهم. يقول المحامي محمد عيسى، عضو هيئة الدفاع عن خالد “على الرغم من أن القانون ينص ان المتهم برئ حتى تثبت إدانته، إلا ان القواعد العامة للسجن لا يحظى فيها المحبوسين احتياطيا بساعتين للتريض يوميا، كما تختلف معاملة المعتقلين السياسيين عن الجنائيين على حسب مزاج كل سجن، حتى تصريحات الزيارة للمحامين لا تمنحها النيابات العامة بسهولة، شهر يسمحوا لنا بتصريح زيارة وشهر آخر لا.” يرى عيسى مع أن الحبس الاحتياطي عقوبة للجميع، “يتكلف الأهالى في كل زيارة حوالي 1000 جنيه، ويزيد الدفع مع الشهور التي تصل لسنين في الحبس الاحتياطي في انتظار حكم، أعرف ناس باعت أرضها علشان بس تستمر في زيارة ولادها”.

الزيارة عمل جماعي

تخضع كل منطقة جغرافية تابعة لقسم شرطة معين ليوم واحد للزيارة في الأسبوع، تتفق ميرفت مع 3 أهالي آخرين تعرفهم على مستوى علاقات الزيارة، تابعين لزيارة يوم الأحد الخاصة بقسم بولاق الدكرور، لعمل نفس الأكل، على أن تجهز كل واحدة منهن ما يكفي 15 فردًا. تقول ميرفت “لازم نأكل العنبر كله نفس الأكل، كله زي بعضه” وينتظرن من أهالي مناطق أخرى تقديم المعروف ذاته في أبنائهن اليوم التالي.

خالد –كما تروي أمه – لا يشتكي من قلة الطعام الذي يصله في الزيارات، ولكنه يشتكي في الآونة الأخيرة من انقطاع المياه طوال فترة النهار، وفتحها فقط من وقت العشاء حتى الفجر.

 تعكس القضية المتهم فيها خالد حالة التضييق في مجال العمل السياسي في مصر في هذه اللحظة، اذ لم يتم القبض على خالد في مظاهرة، أو حتى اجتماع سياسي، تم القبض عليه من منزله. في احدى نوبات المداهمات الأمنية المفاجئة قبل الذكري الخامسة من  ثورة 25 يناير، تم تفتيش مئات الشقق والقبض على عشرات النشطاء من منازلهم وحتى من على المقاهي.

تخرج السيدة ميرفت من سجن الكيلو عشرة ونصف وهي تحمل حقيبة مليئة بثياب متسخة تفتشها جيدا لعلها تجد جواب من خالد بداخلها.

*  تحديث

خلال إعداد هذا الموضوع، أخلت الدائرة 14 جنايات الجيزة سبيل كلا من خالد، ومتهم آخر. لا يغلق هذا القرار القضية، مازال على خالد حضور جلسة تجديد حبس جديدة حتى أن تقرر دائرة الجنايات أن تتحفظ على القضية لعدم كفاية الأدلة أو يتم إحالة كل المتهمين للمحكمة! ولا يغير القرار من معاناة الآلاف من أهالي المعتقلين التي تتشابه قصصهم مع قصة السيدة ميرفت، كما سيتحتم على خالد الذي يتطلع إلى بدء عامه الدراسي الجديد زيارة قسم شرطة بولاق الدكرور يومياً كتدبير احترازي على ذمة القضية.