عندما أصدر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني قراراً برفع درجة التأهب القصوى وما يترتب عليه من اتخاذ كافة التدابير والإجراءات الأمنية الكفيلة بتأمين منطقة طرابلس الكبرى، لمدة 48 ساعة من ظهر يوم الخميس 28 يوليو إلى ظهر يوم السبت، نُظر إليه في الشارع الليبي على أنه مجرد قرار ورقي من طرف مجلس ورقي لا يملك من أمر العاصمة شيئاً.

عندما أصدر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني قراراً برفع درجة التأهب القصوى وما يترتب عليه من اتخاذ كافة التدابير والإجراءات الأمنية الكفيلة بتأمين منطقة طرابلس الكبرى، لمدة 48 ساعة من ظهر يوم الخميس 28 يوليو إلى ظهر يوم السبت، نُظر إليه في الشارع الليبي على أنه مجرد قرار ورقي من طرف مجلس ورقي لا يملك من أمر العاصمة شيئاً.

لكن ظهرت في الموعد قوة أمنية ضخمة مكونة من ميليشيا “سوق الجمعة” السلفية الموالية للدولة والمعروفة بقوات الردع الخاصة يقودها الشيخ السلفي عبد الرؤوف كارة، انتشرت بمؤازرة قوات الشرطة في مواقع المدينة الحساسة وحول مؤسسات الدولة، تحسباً لخروج مظاهرات بتوجيه من المفتي الغرياني مطالبة بإسقاط المجلس وتسليم السلطة للمؤتمر الوطني العام ومنددة بالتدخل الفرنسي إلى جانب الجنرال حفتر.

وقوات الردع الخاصة هي في الأساس ميليشيا سلفية “مطاوعية” على الطريقة الوهابية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد ركزت نشاطها الشُرطي على محاربة مروّجي المخدّرات والخمور ومرتكبي جرائم السرقة والخطف وحتى تجارة العملة. كما قامت بدور مهم في القبض على خلايا نائمة تتبع تنظيم داعش، مما أكسبها شعبية اجتماعية كبيرة خصوصا في منطقة سوق الجمعة.

وشيخها كارة يردد أنه غير معني بالسياسة وإنما بالعمل على حفظ أمن الناس. وهو يتبع مفهوم الولاء السلفي التقليدي لولي الأمر. لذلك اعتبر المجلس الرئاسي هو ولي الأمر الحالي بدلا من المؤتمر الوطني المنحل بحكم “اتفاق الصخيرات”.

إنه يدرك أن حكومة المجلس الرئاسي يدعمها الغرب والغرب هو أمريكا بالأساس. وبالتالي فإن الولاء لها يضمن تثبيت نفوذه ودفع الرواتب لمجندي قواته الذين يقدرون بحوالي ألفي عنصر. وهكذا افترق عن حلفائه السابقين من أمراء ميليشيات “فجر ليبيا” الموالية للمؤتمر الوطني وحكومة الإنقاذ مثل عبد الحكيم بلحاج وصلاح بادي وأبي عبيدة الزاوي وخالد الشريف وصلاح المرغني وآخرين..

والحال أنه لولا ميليشيات قوات الردع الخاصة ما تمكن المجلس الرئاسي من دخول العاصمة والاستقرار بها. وما كان بمقدوره إنفاذ خطة التأهب القصوى لتأمين طرابلس الكبرى، والتي أوصل كارة بها رسالة قوية بحسبانه شيخ أمن العاصمة إلى خصوم المجلس الرئاسي الذين يسعون إلى إسقاطه، بتحريض من المفتي الصادق الغرياني المقال من قبل مجلس النواب، والذي بات مفتياً لصالح فئة بعينها متمثلة في أنصاره التبع في غرب البلاد وميليشيات متطرفة مثل “الجماعة الليبية المقاتلة” و”غرفة عمليات ثوار ليبيا” و”سرايا الدفاع عن بنغازي” و”مجلس شورى ثوار بنغازي” و”مجلس شورى ثوار درنة”، الذين يمثلون (عنده) الفئة المؤمنة، وبالمقابل وصم القوات التي يقودها الجنرال حفتر بالفئة الباغية التي تستعين بالكفار (فرنسا) واعتبر قتالها جهاداً مقدساً لا يستدعي أخذ إذن الأهل.

فماذا سيفعل الغرياني حيال الفئة السلفية المسلحة الموالية للمجلس الرئاسي التي يقودها كارة وتتمتع بحاضنة اجتماعية واسعة النطاق. لم يصفها بالفئة الضالة وبالتالي يحل الجهاد ضدها لكنه اتهمها بالظلم والغلو والعداء للدين والثوار، وأعتبرها دسيسة لمخابرات أجنبية وخليجية.

وبينما كانت ردة فعل الشيخ الغرياني هائجة تخويناً وتكفيراً لحفتر ومعسكره لأنه استدعى المحتل الأجنبي عندما استعان بالطيران الفرنسي في بنغازي، جاءت ردة فعله على الضربات الأمريكية الجوية في سرت انتقاداً خافتاً في أقوى حالاته.

وعلى المقلب الآخر، ومن مفارقات الحالة الليبية السريالية، أدان مجلس النواب بطبرق التدخل الأمريكي الجوي في سرت لأنه جاء بناء على طلب “حكومة الوفاق” غير الحائزة على ثقة البرلمان بينما اعتبر التدخل الفرنسي مشروعاً.

وعلى خلفية هذه الأحداث التي أبرزت كارة أميراً ميليشاوياً متسيداً على أمن العاصمة، وقد تركت معظم ميليشيات مصراتة طرابلس والتحقت بجبهة الحرب في سرت وانكمشت قوة أنصار المفتي الغرياني، بدا الأمر فرصة متاحة لا تعوض لتحرك قوات الجيش التابعة لحفتر للسيطرة على العاصمة من مواقع تمركزاته في غرب طرابلس من جهة الزنتان والرجبان وورشفانة.

وقد سألت بهذا الخصوص أحد الضباط الكبار البارزين في “عملية الكرامة” وأجابني بما معناه: بالإمكان الدخول عسكرياً إلى طرابلس بسهولة الآن سيما بعد انسحاب ميليشيات مصراتة. لكن ذلك سوف يكون تصرفاً خاطئاً سياسياً.. لأن القوى الغربية، الأمريكان تحديداَ، سوف يعتبرونه اعتداء على صنيعتهم (المجلس الرئاسي وحكومته). ثم، حسب قوله، لا بد من نضوج حالة الرفض الشعبي العارم في العاصمة وضمان انضمام الشباب المساندين من حملة السلاح لحماية أحيائهم…

إذاً لننتظر ونرى. فلا تزال الحروب الصغيرة تتوالد.