لاتكترث ع. م بكونها الليبية الوحيدة في بيت يعج بعاملات الجنس معظمهن من دول إفريقية يعملن جميعاً في هذه التجارة التي ازدهرت في سبها خلال الأعوام الأخيرة.
الفتاة القادمة من مدينة أوباري بعد أن فقدت والدها وأخويها في الاشتباكات التي اشتدت بين التبو والطوارق العام الماضي، وافقت على سرد قصتها بعد مرحلة مضنية من الإقناع، ولم تكن جنسيتها المختلفة عن زميلاتها أمراً يؤرقها فعلاً.
لم تفارق ع. م (32 عاماً) تلك الابتسامة الباهتة التي فشلت في إخفاء حزن كان جلياً في عينيها الصغيرتين، وهي تقول إنها لا تريد أن تكون حياتها بهذه الطريقة. إذ عاشت حياة طبيعية في بيت أسرتها المكونة من والديها وأخويها، ولكن الحرب والهجرة والموت كانت كفيلة بخروجها إلى عالم آخر.
عمل مؤقت
“لم أكن أعرف رجلاً قبل عملي في الجنس” هذا ماتقوله ع. م التي ذكرت أنها مارست الجنس مع رجل ميسور الحال مقابل مبلغ مالي في سبها بعد هجرتها إليها، تلك الحادثة مثلت بداية سلوكها لهذا الطريق، إذ نقلها هذا الرجل إلى أحد البيوت التي يرتادها ووعدها بأنها ستكون بخير وأنها ستتحصل على امتيازات كثيرة كونها “بيضاء اللون وأجمل من العاملات في الجنس بنفس البيت”.
تعاملت ع. م مع العرض على أنه سيكون مؤقتاً، حيث توقعت أن تجمع مبلغاً من المال يمكنها من العودة لحياتها الأولى، وكان الأمر “يستحق التفكير” حيث لم يبقَ من أسرتها سوى والدتها التي لا تستطيع عمل شيء لها وهي غير مؤهلةٍ لأداء أي عمل آخر، “لم أظن أنني سأتعامل مع قساة قلوبٍ ومرضى نفسيين” هكذا وصفت به الفتاة زبائنها في البيت.
بعد انتهاء الحديث تركنا الفتاة لنسبر أغوار المكان، فتقدمت مريم تراولي (نيجيرية 21 عاماً) التي بادرتنا بالقول “نحن نعيش مأساة لم نكن نتوقعها”. مريم تعمل في هذا المجال بمدينة سبها منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وهي اليوم من أهم الفتيات في البيت الذي يعمل على استقبال الزبائن ليل نهار.
وكغيرها من عاملات الجنس هنا كانت تعتبر هذه المرحلة جسر عبور لحياة أخرى، حيث تنوي إكمال رحلتها إلى أوروبا. لكن “الكمزنجي” المسؤول عن البيت ومن فيه وهو نفسه التاجر الذي هربها من بلادها، منعها من الذهاب بذريعة أنه يبحث لها عن فرصة مناسبة لعبور البلاد حتى الشاطئ الشمالي بأمان، وطلب منها البقاء والعمل في البيت الذي افتتحه لبيع الهوى محاولاً إغراءها بالأموال التي ستتمكن من جمعها في وقت بسيط.
ضرب وتعذيب
مريم عملت بذات المجال في بلادها أيضاً، حيث جمعت المبلغ الذي جاءت به إلى ليبيا من عملها كفتاة ليل في نيجيريا، ولكن الوضع في سبها مغاير تماماً حسب ما روت لـ”مراسلون”، حيث كانت حرة نفسها ولا يتحكم بها صاحب البيت.
الفتيات في بيت سبها يتعرضن حسب مريم للضرب والشتم والإيذاء من قبل الكمزنجي، الذي يجبرهن على ممارسة الجنس مع زبائنه دون مراعاة لعددهم، حيث تقول إنه أجبرها ذات يوم على ممارسة الجنس مع سبعة أشخاص بشكل متواصل، ما سبب لها أزمات صحية.
تتذكر مريم أيضا ًزبائن تصفهم “بالمختلين نفسياً”،روت عن أحدهم الذي مارس بحقها التعذيب طوال ليلة كاملة، “جاء ذلك الزبون للكمزنجي بمبلغ كبير ليسمح له بأخذي معه إلى بيته، كان تعامله معي جيداً ولطيفاً حتى وصلنا للبيت، فبدأ بالشتم والسباب والضرب، مزق ملابسي وبدأ في ضربي بكابل كان ملقى في أحد جوانب البيت، لم أفهم ماكان يريده أو لماذا توحش معي، ولم أكن أستطيع الاستنجاد بأحد ولا الهروب من البيت، وظل طوال الليل يستمتع بتعذيبي دون توقف، حتى أدركه التعب ونام قبيل الفجر” تقول مريم.
تجارة رابحة
المريمي أ. أ. صاحب البيت الذي تسبب بكل هذا الألم للفتيات تحدث لـ”مراسلون” دون أن يبدي أي تردد أو إنكار، وكل ما طلبه هو عدم إقحام اسم عائلته في الموضوع.
لا يفكر المريمي إلا في مقدار الربح الكبير الذي يجنيه من هذا العمل، وكونه مهرب بشر قديم من أفريقيا، تسنح له فرصة اختيار الفتيات الجميلات من المهاجرين ليضمّهن إلى بيته مقابل وعد بأن يتكفل بنقلهن إلى الشمال مجاناً بعد قضاء فترة “كافية” يحددها هو في البيت الذي يرعاه.
المريمي حاول إضفاء نوع من المهنية على ما يقوم به حين قال إنه يقول بفحص الفتيات طبياً للاطمئنان على صحتهن وعدم حملهن للأمراض، ولكن لم نعلم منه كيف يقوم بذلك ومعظمهن مهاجرات غير شرعيات ولايملكن أوراقاً ثبوتية.
بعشرة دنانير
في بيت آخر التقينا أرياما وهي من غينيا بيساو، الفتاة قالت لـ”مراسلون” إن صاحب البيت الذي تعمل فيه لطيف معهن ويوفر لهن جميع مايحتجنه من أغذية وملابس. ورغم أن جمع المال هو هدفها إلا أنها لا تعرف السعر الذي يتقاضاه صاحب البيت بالتحديد عن كل زبون، وهو أربعون ديناراً (28 دولار أمريكي تقريباً) حسب ما علم “مراسلون”، فيما تحصل هي على عشرة دنانير (7 دولار أمريكي تقريباً) عن كل زبون.
المبلغ قد يصبح عشرين ديناراً في حال خرجت مع أحد الزبائن، غير أنها لاتفضل الخروج بسبب تكرر حالات اختفاء الفتيات ممن تعرفهن، وأيضا بسبب تكرر قضايا قُتلت فيها العاملات على يد من خرجن معه تحت تأثير السُكر.
أغلب العاملات في بيوت الجنس التي زرناها كن يعانين من أوضاع اقتصادية صعبة في السابق، وهن يرغبن في الهجرة إلى أوروبا مهما كان الثمن، الفقر والمرض وتدني مستوى المعيشة يقذف بهن في أحضان تلك البيوت، التي لاتجد فيهن إلا دماءً جديدة تجذب عدداً أكبر من الزبائن.
أدفع ليسعدنني
عند مغادرتنا للبيت كان المنظر أمامه ملفتاً، عشرات السيارات الفارهة ومعتمة الزجاج تنتظر أمام بابه، رفض أغلب سائقيها الحديث معنا، إلا أن بعضهم قال إنهم جاؤوا لأخذ مجموعة من الفتيات إلى أحد المزارع خارج المدينة لقضاء الليل هناك.
في طابور الزبائن القتينا م. أ. (43 عاماً) الذي قال لنا إنه يرتاد بشكل دائم بيوت “السعادة” كما يسميها، وهو لا يكترث بسماع قصص من يمارس معهن الجنس، “أنا أدفع لهن ليسعدنني ولا أريد سماع مآسيهن، وأستغرب أن يكن بهذه القدرة على الإسعاد وهن يعشن مآسٍ كهذه”.
لا نملك حلاً
عند توجه “مراسلون” إلى جهاز مكافحة الجريمة في المدينة سمعنا من رئيسه أبو بكر شعيفة أن بيوت الدعارة تنتشر في أحياء عبد الكافي والمنشية والمهدية وحي الطيوري، وأن الفتيات القادمات من إفريقيا هن عماد هذه البيوت مع وجود عدد من الليبيات، وتدر هذه البيوت – حسب شعيفة – أموالاً طائلة على أصحابها، الذين كونوا مجموعات مسلحة لحماية تجارتهم.
لا يخفي شعيفة مخاوفه من انتشار الأمراض بسبب هذه البيوت التي لا تخضع العاملات فيها لأي متابعة صحية، موضحاً أن أجهزة الدولة لا تتمكن من التعامل مع البيوت المحمية غالباً من القبائل التي ينتمي إليها رعاة هذه التجارة، وهو لايملك أن يقدم شيئاً بهذا الخصوص.
مخاوف شعيفة دفعتنا للتوجه إلى مركز الأمراض السارية والمتوطنة بسبها، الذي حدثنا مديره محمد البوسيفي عن حالات إصابة بفيروس الإيدز سُجّلت عند بعض الشباب ممن كانوا يرتادون بيوت الدعارة، وبيّن إنه لا توجد إحصاءات دقيقة بعدد حالات الإصابة بالإيدز في سبها، مؤكداً أن المركز يقدم خدمات الفحص حتى لغير الليبيين مشجعاً العاملات في هذه البيوت على الحضور والفحص للتأكد من سلامتهن.
بعيداً عن هذا كله لم تفكر مريم ورفيقاتها إلا في السبيل الذي يخرجهن من جحيم الفقر في بلدانهن وجحيم عالم الدعارة في سبها إلى جنة أوروبا، أمل يظل يداعب مخيلاتهن وسط رغبة أرباب عملهن في استغلالهن على الدوام، فيما تزداد أهميتهن كل يوم مع ازدياد زبائنهن من علية القوم في المدينة، تقول مريم “أريد أن أخبر أمي أخيراً أني بخير وحققت هدفي ووصلت لأوروبا، هي لاتعلم بما يحدث معي هنا، ولا أريدها أن تعلم، ففي سبها من الحزن ما لا أريده لها”.