مرت تسعة أشهر على وفاة بشير الحفيان الذي كان يعمل بمختبرات المركز الوطني لمكافحة الأمراض السارية، إثر إصابته بعدوى السل جراء قيامه بتحليل عينة مصابة في المختبر، إلا أن هذه الحادثة لم تؤدّ رغم قسوتها إلى الاهتمام بالعاملين في هذا القطاع بإدراج مهنتهم ضمن تصنيف المهن الخطرة، وتوفير معدات السلامة المهنية والوقاية من العدوى التي لا يملكون منها شيئاً.

مضطرون للعمل

مرت تسعة أشهر على وفاة بشير الحفيان الذي كان يعمل بمختبرات المركز الوطني لمكافحة الأمراض السارية، إثر إصابته بعدوى السل جراء قيامه بتحليل عينة مصابة في المختبر، إلا أن هذه الحادثة لم تؤدّ رغم قسوتها إلى الاهتمام بالعاملين في هذا القطاع بإدراج مهنتهم ضمن تصنيف المهن الخطرة، وتوفير معدات السلامة المهنية والوقاية من العدوى التي لا يملكون منها شيئاً.

مضطرون للعمل

العاملات بمختبرات المركز والمصاب معظمهن بأعراض مرضية مختلفة كحالات الصداع الدائم والاحتقان وأمراض الجهاز التنفسي والحساسية حسب ما روين لـ”مراسلون” الذي التقاهن بساحة المركز أثناء فترة الاستراحة، لم تزد مطالبهن عما سبق، فهن يرغبن بالعمل ولكن في ظروف صحية ملائمة وعائد مادي يقدر حجم الخسارة التي قد يتعرضن لها.

أوكلت الممرضات مهمة الحديث لمدير التفتيش على معامل الدرن نبيل عسكر، الذي يعاني بدوره من فقدان حاستي الشم والتذوق بسبب ممارسة مهنة التحليل دون وقاية.

لا تقتصر المخاطرة – حسب عسكر – على التعامل مع العينات الميكرويبولوجية والكيميائية، وإنما تشمل استنشاق الروائح المنبعثة من تحليل تلك العينات بالطرق التقليدية القديمة المتمثلة في الحرق بالنار والرش بالماء، “وهو ما يجبرنا على استنشاق المواد الكيماوية الخطرة المتطايرة والتي تحتوي على الكربوكسيد والأسيدكحول”.

ولأن المعامل تفتقر لأبسط مقومات السلامة المهنية مثل توفر مواد التعقيم وغيرها من الاشتراطات المحددة من منظمة الصحة العالمية، يكتفي العاملون – يقول عسكر – بمحاولة حماية أنفسهم من خلال التعرض للهواء بين الفينة والأخرى أثناء ساعات العمل الدوام الرسمي.

شفاط منزلي!!

أثناء الجولة التي قام بها “مراسلون” في المختبرات لاحظ – رغم الروائح النافذة القوية – عدم ارتداء العاملين في المختبرات كمامات حماية، وهو ما أجابنا عليه لطفي نصر مدير فرع طرابلس بالمركز الوطني لمكافحة الأمراض السارية، والذي لم يكن أفضل حالاً كونه يعاني من احتقان في الجيوب الأنفية وضيق في التنفس مبتسماً “هذه الروائح لن تنفع معها الكمامات وجدت أم لا، لأن من المفترض وجود أجهزة حديثة مختصة بعملية شفط هذه الأبخرة والغازات”.

حسب كلام نصر فإن أقصى ما قامت وزارة الصحة بتوفيره لهم هو شفاط منزلي عادي لا يجدي نفعاً، وذلك بعد عدد كبير من الشكاوى التي تقدموا بها، “سمعنا عام 2014 عن استيراد جهاز حديث متطور متخصص في الصبغ الآلي، غير أن هذا الجهاز لم يدخل المختبرات حتي هذا الوقت” يقول مدير الفرع.

مصابون بالجملة

الدكتور بدرالدين النجار مدير المركز قال إنه لا يستطيع تحديد عدد العاملين المصابين بأعراض مرضية نتيجة تحليل العينات، حيث تختلف حالات الإصابة حسب قوله بين المباشرة وغير المباشرة.

إلا أن النجار اعتبر جل العاملين بالمختبرات ويبلغ عددهم  468 عاملاً مصابين بعدوى المرض في الوقت الحالي، كما أفاد بأن الموجودين في هذه المعامل يمثلون عينة بسيطة من المصابين الموزعين على 26 فرع للمركز في كافة أنحاء ليبيا.

ولكن عائشة جمعة مشرفة معمل الدرن التي كانت تقوم بكشف أحد العينات قالت إن “مهمة حصر أعداد المتضررين ليست بالمستحيلة لو سُمح لنا بذلك، خاصة وأننا مؤسسة صحية نعرف المصابين ونعلم نوعية إصابتهم ولدى كل منهم تقرير طبي يوضح ويؤكد”.

وقد حاولت عائشة وزملاؤها “دق ناقوس الخطر” بعد وفاة زميلهم، خاصة وأنهم جميعاً تابعوا رحلة صراعه المرير مع المرض، التي “لم تحظَ بأي التفاتة من وزارة الصحة” حسب قولها، ورغم أن ما طلبوه لم يتعدَّ إدراج مهنتهم ضمن المهن الخطرة التي تصرف لها علاوة خطر، إلا أن مطالباتهم “ذهبت أدراج الرياح”.

عزوف المتخصصين

كلام المشرفة أكده توفيق عمر سعيد مدير إدارة الشؤون الإدارية بالمركز الوطني لمكافحة الأمراض السارية، والذي قال “نشكو حالياً من مشكلة نقص الكوادر العاملة في المختبرات وعزوف الفنيين والمتخصصين عن العمل نظراً لنقص الحوافز ولعدم تطوير المختبرات بالشكل الذي يضمن سلامة العاملين فيها”، وفي هذا الإطار طالب توفيق بتوفير الدعم المعنوي والمادي نظير التعامل مع العينات المرضية الخطيرة.

حسب توفيق فإن الجميع يرغب بضرورة إقرار علاج المصابين من العاملين بالمركز على حساب الدولة، مع توفير مميزات ضمانية أخرى أسوة بالعاملين في قطاعات كالنفط مثلاً، بينما علاوة الخطر التي يتقاضاها الأطباء فقط من العاملين بقطاع الصحة لا تتجاوز 15% من المرتب وهي حسب اعتقاده “غير مجزية”.

وعندما كان “مراسلون” في طريق المغادرة استوقفنا عند حافلة كشف الأشعة عبد الرزاق التومي فني تصوير الأشعة قائلاً “إقرار علاوة الخطر نسمع عنه منذ 15 سنة وحتى اليوم لم يتغير أي شيء، نحن نموت بصمت ولا نمتلك ثمن العلاج”.

التومي يقول بأنهم طالبوا بتوفير أجهزة حديثة بعد إصابة جلّ العاملين بأقسام الأشعة بالدوالي وضعف النظر، ولكن كل النداءات تمخض عنها فقط توفير أجهزة شخصية لقياس خطورة الأشعة دون أن يتم تطبيق معايير قراءات الأجهزة، حيث مازال العاملون المصابون بتلوث إشعاعي يمارسون مهامهم حسب قوله، ويختتم “نحن ندفع ثمن اختيارنا لهذه المهنة”.

القانون هو العائق

رصد عدد المصابين بالمركز لن يجدي نفعاً، فبحسب النجار منظومة القانون تعتبر مجحفة في حق هذه الفئة من العاملين ولا تمنحهم أي مميزات، بل ربما يفتح رصد العدد الباب أمام مطالب “ليست من ضمن اختصاصات المركز في الوقت الحالي” يقول المدير.

كلام مدير المركز أكده الدكتور خالد الطالب وكيل أول وزارة الصحة، الذي اعترف بعدم إنصاف العاملين في المختبرات الطبية “الذين يواجهون موبوئية العينات واحتمالات العدوى في كثير من الأحيان كون المحاليل الكيماوية والأصباغ التي يتعامل معها الفنيون تحتوي مواد سامة يؤدي تراكمها في الجسم عن طريق الجهاز التنفسي أو الملامسة إلى الإصابة بذات الأمراض على المدى الطويل”.

ولكن القوانين حسب الطالب هي من تقف حائلاً دون ذلك “ففي كل مرة يناقش فيها هذا الملف ينتهي النقاش بضرورة استحداث تشريعات جديدة وهو ما يعتبر مستحيلاً في الوقت الحاضر”.