كتاجر، يستطيع الصيدلي أن يستغنى عن المدمن، لكن المدمن لايستطيع الحياة دون الصيدلي،  فبداية من الأدوية المخدرة نفسها، مروراً بعلاجات أعراض الانسحاب، وصولاً ل”السرنجة” التي يستخدمها مدمن الهيروين أو قطرة العين التي يضعها متعاطي الحشيش لعدم إثارة شك الأهل أو الأكمنة الأمنية.. تتعدد صور وأشكال العلاقة الملتبسة، والتي يحاوطها الشك والخطر.
في مايو 2016 تم العثور على مخازن غير مرخصة لصاحب سلسلة صيدليات “المصطفى” بالسويس –وهي الأكبر بالمدينة- والعثور على كميات كبيرة من الأدوية المخدرة بها، من هناك حاولنا تلمس أطراف الخيوط المؤدية لرسم ملامح مبدأية لشكل الارتباط الذي يبدو عميقا بين المدمن والصيدلي.

تشميع وإخلاء سبيل

قررت نيابة السويس، إخلاء سبيل الصيدلى صاحب سلسلة الصيدليات فى السويس، بكفالة مالية قدرها 20 ألف جنيه، بعد ضبط كمية من الأدوية غير المصرح بتداولها فى مصر، وأخرى مهربة وأقراص مخدرة مدرجة بالجدول الأول بمخزنين غير مرخصين تابعين للصيدلى، وذلك بعد أن قدم أوراق خاصة بالأدوية المخدرة التي تم ضبطها، وتفيد بحصوله عليها بطريقة شرعية، وأنها الحصة المقررة للصيدليات المملوكة له والتابعة للسلسلة. وأمرت النيابة بغلق المخزنين غير المرخصين وتشميعهما، كما أمرت بتشكيل لجنة من الصيادلة بالتنسيق مع وزارة الصحة ونقابة الصيادلة، لإعادة فحص الأدوية المهربة جمركيا، والأدوية المحظور تداولها فى مصر، لتحديد مدى خطورة تناولها، وقيمتها الفعلية وصلاحيتها للعلاج من عدمه. وتمكنت الحملة الأمنية من ضبط عدد “201” نوع عقار مختلف الأصناف، بينها 21 صنفا أقراص مؤثرة على الحالة النفسية بإجمالى “6570 قرص مخدر (ابتريل – تامول – اموتريل – باركينول) بجانب ضبط 122 صنفا أدوية مهربة ومجهولة المصدر وغير خالصة الرسوم الجمركية، و14 صنفا أدوية خاصة بالهيئة العامة للتأمين الصحى، و7 أصناف أدوية منتهية الصلاحية.

نحن لا نبيع الترامادول
وبعد اخلاء سبيله بساعات نشر الدكتور “م” صاحب سلسلة الصيدليات فيديو على عدة مواقع للتواصل الاجتماعي، يوضح فيه أن الأدوية المضبوطة هي أدوية مستوردة يحتاجها الكثير من المرضى ولا يجدونها إلا عنده، تخص الأورام السرطانية ومنشطات التبويض، وأنه لم يكن بالمخازن المضبوطة أي منشط جنسي أو أدوية مخدرة.. “واعتراضي الأساسي في التناول الصحفي هو الصاق اسم عقار “التامول ” ضمن الأدوية المضبوطة، لأن التامول ترامادول ونحن لا نبيع الترامادول، اسأل كل بيت في السويس، كل واحدة كانت حامل، ماذا تناولت كمضاد للقيء غير ال “نافيدوكسين”؟ وهذا العقار غير مسجل يمصر من الأساس، القانون موضوع من عام 1941 ، حتى 2016 لم يعاد مناقشته لبيان  ما يشوبه من عوار،  وقضيتي تم تضخيمها، وهي بالأساس تخص نقطة اجرائية تتعلق بكون المخزن بشقة سكنية وليس محلاً ملاصقاً للصيدلية، حتى وان كانت تلك الشقة لا تبتعد عن الصيدلية إلا بمسافة لا تتعدى بضعة أمتار، وبهذا الشكل الذي تم به اقتحام مخازني يجب اذن بالمثل اقتحام كل مخازن صيدليات مصر الكبرى، وأن نتوقف عن العمل وعن خدمة المرضى، وإن تم تغيير قوانين الاستيراد سيتم خفض سعر الدواء المستورد لنصف ثمنه، واسألوا المتعاملين معي من أهالي السويس إن كان من الأفضل غلق صيدليات المصطفي أم لا ! ، بعد ثلاثين سنة خدمة لشعب السويس لم أتوقع أن يكون هذا هو رد الجميل” .

ليست الأولى ولا الأخيرة
لم تكن حادثة صيدليات “المصطفى” الأولى، وبالطبع لن تكون الأخيرة، فبعد أقل من شهر تلقى مدير أمن أسيوط إخطاراً يفيد ضيط صاحب صيدلية “موسى” حيث تم ضبط لديه بمخازن الصيدلية 664 عبوة من الأدوية المخدرة والمؤثرة على الصحة النفسية والمدرجة بجداول المخدرات، منها 69 قرص وأمبول وكبسول منتهية الصلاحية. كما تم ضبط صيدلية ببولاق الدكرور بالجيزة قبلها بأيام، ليصل عدد الصيدليات التي تم إغلاق مخازنها إلى 10 صيدليات، بينما تم تحرير محاضر بالمخالفات لعدد 22 صيدلية أخرى ، وتم العرض على النيابة المختصة لاتخاذ الخطوات القانونية اللازمة ، كل هذا فقط كان الربع الثاني من 2016 حسب ما أعلنته وزارة الصحة.

هياكل عظمية تتنظر الفرج

تناولت الدراما تلك العلاقة بشكل سطحي ومكرر ، حتى الأدب ، أعمال قليلة تصدت لتلك العلاقة الحساسة مثلما فعل الأديب المصري المقيم بكندا “ياسر عبد اللطيف ” في روايته “قانون الوراثة” الصادرة عن “دار ميريت ” للتشر  حيث كتب :


” تحتوي كل 10 ميلليمتر على :

كلوروفينيرامين ماليات             3 مجم
فينيل أفرين – أيدروكلورايد        5 مجم
أفدرين – أيدروكلوريد              5 مجم
دكستروميثروفان- هيدروبروميد  15  مجم

رفع الدكتور موفق صاحب صيدلية الرحمة حاجبيه إلى أعلى بعد أن قرأ النشرة الداخلية للتوسيفان-ن الذي نطلق عليه اختصاراً N”  ”  وطواها داخل الغلاف  الكرتوني ، وقال : ست زجاجات مرة واحدة لابد أن عندكم عزومة الليلة – لم يكن يعرف أن ستة هو عددنا نحن ، وكنت المتطوع اليوم للتعامل معه – وفي الخارج كانت خمسة هياكل عظمية تقبع بين مستند على سيارة واقفة ، وجالس على الرصيف ، ومتلفت حوله لا يعرف ما الذي يفعله بجسده ، في انتظار إعلان نتيجة المقامرة بالتعامل مع صيدلي جديد ، ومدى استعداده لابتلاع الطعم ، أو التواطؤ ، أو رفضه كلياً للصفقة فنبدأ رحلة العناء مع صيدليات أخرى … “.


إيذاء النفس حرية شخصية
وفي حوار ل”مراسلون” مع أحد المتعاملين الدائمين لسلسلة صيدليات السويس أبدي (أ. ل) -33 عاماً– مهندس بترول- متعاطي للمخدرات، أسفه الشديد لما تعرضت له سلسلة الصيدليات، ويصف ما حدث بالمؤامرة من المنافسين ويحكى عن تعامله المستمر مع هذه الصيدليات، ويتساءل : أليس المدمن مريضاً ؟ واذا لم يجد المتعاطي ما يتعاطاه ألن يؤدي ذلك لعواقب وخيمة تطال الجميع؟ ألن تتضمن تلك العواقب إيذاء نفسه وغيره؟

وعلى غرار رائعة “سيرجيو ليوني” ” الطيب والشرس والقبيح” يقسم (أ.ل) الصيادلة ل”الفاهم” و”الجشع” و”المتحفظ”، “الفاهم”: هو من يقدّر من أمامه، هل هو مجرم ومسجل خطر، أم مجرد متعاطي يفهم الأدوية التي تؤثر على المزاج، جرعاتها المختلفة، موادها الفعالة، وآثارها الجانبية، والإيمان بأن إيذاء النفس – إن اعتبرناه إيذاءاً- هو حرية شخصية، فيصرف له الدواء. أما “الجشع”: فهو من يقوم بصرف الدواء بأضعاف سعره، و”المتحفظ”: هو الذي لا يقوم بصرف العلاج دون روشتة طبية مختومة ومعتمدة، وهو أسوأ الأنواع – من وجهة نظره– على الإطلاق .
كما يرى (أ.ل) أن الأزمة أكبر من سلسلة الصيدليات، وهي أزمة عالمية تتعلق بحروب شركات الدواء، ويرى أن الحل في تقنين تداول وتناول القنب الهندي (الحشيش)، لما له – بالأبحاث الطبية المثبتة – من أكبر فعالية وأقل آثار جانبية .

المقامرة والصيدلي المحنك
يُظهر “ياسر عبد اللطيف” وجهاً آخر من أوجه هذه العلاقة في نفس الفصل من روايته تحت عنوان “جدول اللامعقول.. أو المعادي صيف88”:

“بقت مشكلة أرقتنا، وهي كيفية تأمين تموين الرحلة من المخدرات. لم يكن معنا سوى قدر قليل من النقود، كما أن الصيدليات المتواطئة لابد وقد أغلقت أبوابها. صيدلية الخدمة الليلية الوحيدة يتمتع صاحبها والعاملون فيها بنزاهة تكفي كل صيادلة الحي الآخرين، وهو يعرف جيداً كصيدلي مخضرم ألاعيب الشباب من أمثالنا في التحايل على الدماغ.
قال شريف الذي كان قد وصل منذ أيام من الأقصر حيث يدرس الفندقة بأحد المعاهد أنه عرف من ضمن ما عرف هناك عقاراً غريباً يستخدم أصلاً لعلاج داء باركينسون أو الشلل الرعاش: العقار اسمه باركينول وقال أنه يسبب هلاوس شديدة الإيهام تقارب ما نسمعه عن تأثير ال
L.S.D  ، لذا يجب التعامل معه بحرص شديد، وهو بالإضافة إلى ذلك رخيص السعر بدرجة لا تصدق إذ أن البرطمان منه لا يتجاوز ثمنه جنيهاً واحداً، وهو يحتوي على قدر من الأقراص يكفي لغمرنا في الأحلام لمدة أيام وأيام.
كانت الفكرة رائعة أذ أن العقار لم يكن قد عُرف بعد على مستوى المتعاطين ولم يكن مدرجاً بجدول المخدرات والعقاقير المحظور بيعها دون تذكرة طبية، مما يسهل عملية خداع الدكتور التقي صاحب صيدلية الخدمة الليلية، فعقدنا العزم، وكالعادة قسمنا المهام، فذهب منا فريق وبقى فريق .
لاحت في الأفق بعثة الشراء العائدة من صيدلية الخدمة الليلية، ورأينا شريف – وكان أحد المبعوثين – عندما اقتربت خيالاتهم يلقي بشيء في الهواء ويلقفه في كفه مرة أخرى، وعندما اقترب أكثر عرفنا في ذلك الشيء البرطمان السحري، هنأنا أنفسنا على نجاح المقامرة وعرفنا أن شريف لابد وقد دبر فيلما ً محترماً كي يحتال على الصيدلي المحنك . بعد هذا كان أمر الرحلة قد صار هيناً”.

تغير المزاج العام
وعند سؤال “مراسلون ” للروائي والشاعرياسر عبد اللطيف، عن الفرق بين ما رصده في الثمانينيات وبين الوضع الحالي في هذا الصدد ، أخبرنا أن أكثر ما لاحظه  “هو اختلاف الأدوية اللي كانت رائجة في نهاية التمانينات وبداية التسعينات، وهي الفترة اللي تناولتها الرواية ” قانون الوراثة”، عن الأدوية الرائجة حاليا.

وقتها كان الرواج  اكتر للعقاقير التي تحتوي على “الكودايين” او “الديكسترو ميثورفان هيدرو بروميد”، إضافة لعائلة “بنزو دايزيبام” الشهيرة من المثبطات، حاليا المنتشر هو مشتقات مسكن “الترامادول”، ومعظم الناس يتعاطوه لأسباب جنسية بالأساس . مما يشير للتغير الكبير في السوق والمزاج العام.”.

أخطر الأدوار على الإطلاق

وخلال حوار “مراسلون” مع الدكتور أحمد عبد اللطيف استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان قال: “أن الصيادلة في هذا الصدد ينقسموا لنوعين أساسيين، النوع الأول الذي لا يصرف الأدوية النفسية دون روشتة طبية وهذا الذي يمارس صحيح عمله، أما النوع الآخر والذي يقوم بصرف نفس نوعية الأدوية لغير مستحقيها يقوم بهذا الفعل بحرمان المرضى من علاجهم وهذا النوع ينقسم لأربعة أنواع : إما حسن النية ، أو السيكوباتي عدو المجتمع ، أو الصيدلي المدمن ، أو الذي يقوم بتوزيع حصته من أدوية الجدول على الأقارب والأحباب وكل من له عنده مصلحة. إلا أن الدكتور أحمدعبد اللطيف قد أكد أن أخطر أدوار الصيدلي على الإطلاق هو دور الناصح غير الأمين ، حيث كانت نصيحة اللجوء للترامادول  كعلاج من أعراض انسحاب الهيروين مدخلاً لإدمان الترامادول، كما تضم قائمة النصائح علاجات الصرع ومضادات الحساسية على سبيل المثال لا الحصر .

وعن تفشي ظاهرة جلب الأدوية المخدرة من خلال الصيدليات يخبرنا الدكتور ابراهيم السيد أخصائي الطب النفسي وعلاج الإدمان أن الأمر ليس بجديد، وأن الفترة من بداية القرن العشرين إلى الآن هو عصر “الكيمياء” – العقاقير المخدرة – بامتياز ، ولكن تصيبه موجات من الرواج والندرة تبعاً للتغيرات المصحوبة بالتغيرات الاقتصادية ، كالتضخم وأزمة الدولار، وأنه من المستحيل تحديد حجم هذه التجارة لأنها بالنهاية أدوية، ومن الصعب تحديد وإحصاء إن كانت تصل لمستحقيها من عدمه.