للوهلة الأولى بدت أعمدة الدخان السوداء الكثيفة التي تصاعدت في سماء منطقة الفرناج جنوب طرابلس مطلع شهر تموز يوليو الحالي كأنها بسبب تفجير ما، إلا أنها كانت ناتجة عن احتراق أطنان من القمامة أشعل فيها محتجون النار تعبيراً عن استيائهم من تحويل الملعب الرياضي بالمنطقة إلى مكب مرحلي للقمامة.

للوهلة الأولى بدت أعمدة الدخان السوداء الكثيفة التي تصاعدت في سماء منطقة الفرناج جنوب طرابلس مطلع شهر تموز يوليو الحالي كأنها بسبب تفجير ما، إلا أنها كانت ناتجة عن احتراق أطنان من القمامة أشعل فيها محتجون النار تعبيراً عن استيائهم من تحويل الملعب الرياضي بالمنطقة إلى مكب مرحلي للقمامة.

سليمان العباني – 29 سنة – وهو أحد السكان المجاورين للملعب بادر “مراسلون” قائلاً إنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها استغلال الملعب كمكب للقمامة، وأن الأمر بلغ حد أن يقوم سكان المنطقة المحيطة بتشكيل فرق حراسة تقوم بمراقبة الطرق المؤدية إليه نهاراً وتقوم بطرد الشاحنات المحملة بالقمامة مانعة إياها من تفريغ حمولتها بالداخل.

“وإذ كانت المراقبة في النهار تؤتي أكلها إلا أن هناك من كان يستغل ساعات الليل المظلمة ليقوم برمي مخلفات البناء وبقايا الأشجار وغيرها من النفايات بحمولات كبيرة” يقول العباني.

لا نلومهم!!

مشهد اشتعال النيران استهوى الكثير من المتفرجين الذين اصطفوا على جانب الطريق في انتظار أن تأتي سيارات الدفاع المدني لإخماد الحريق، وكانت تعليقات المجتمعين تتفق على لوم شركة الخدمات العامة والمجلس البلدي بسبب التقصير في أداء مهامهما.

بين الجمع كان عادل مصباح الزناتي – 42 سنة – يبدو عليه الضيق الشديد من رائحة الدخان الخانقة، وحين تحدث إليه “مراسلون” قال “تعبنا من المشاكل مع الناس، ولا نملك أن نلومهم على قيامهم برمي القمامة هنا فلا بديل لديهم، بعضهم يتفهم دوافعنا والبعض الآخر يصدمنا بردة فعله العدوانية”، وحسب الزناتي فسكان المنطقة يعلمون أن حرق القمامة ليس حلاً ولكن بقاءها وتحمل الروائح المنبعثة منها أمر أصبح مستحيلاً.

وعند الحديث عن الرائحة تدخل صبري مفتاح الغرياني – 39 سنة – باندفاع قائلاً “تعاني أمي – 73 عاماً – وأطفالي الثلاثة من الربو بنسب متفاوتة نتيجة قرب المنزل من مكان تجميع القمامة، ورغم الالتزام بالبرنامج العلاجي إلا أن حالة الجميع الصحية تتحسن وتسوء بحسب أهواء شركة الخدمات العامة ومدى التزامها بنقل القمامة”.

مهمتنا إشرافية

“مراسلون” اتجه بعد الحادثة إلى مقر المجلس البلدي عين زارة الجنوبي – الواقع في نطاقه الملعب – للاستفسار عن الإجراءات العاجلة التي أعدها المجلس لمواجهة هذه الأزمة، إلا أن تعقيدات فريق الحماية بالمجلس حالت دون تمكننا من لقاء المسؤولين هناك.

قصدنا بعد ذلك المجلس البلدي سوق الجمعة الذي يواجه نفس المشكلة حيث تكررت حوادث حرق القمامة في الشارع، وآخرها منتصف الأسبوع الماضي حين أقدم مواطنون على حرق القمامة في شارع 20 رمضان بسوق الجمعة، وهو أحد أهم الشوارع التجارية بالبلدية.

رئيس المجلس المحلي جمال الدين الشبيني قال لـ”مراسلون” إن مهامهم كمجلس إشرافية بحتة تقتصر على مراقبة نظافة الشوارع، وذلك حسب الموكل إليهم من وزارة الحكم المحلي، وبناءً على التقارير المقدمة من فرق العمل اليومية يتم رصد الأماكن التي تتجمع فيها القمامة ومن ثم مخاطبة شركة الخدمات العامة لاتخاذ الإجراءات اللازمة.

يقول الشبيني إنه في كثير من الحالات ترد شركة الخدمات العامة على مراسلاتهم بالاعتذار بسبب نقص الإمكانيات، ما دفع المجلس لتوجيه نداءات استغاثة لمن صفهم بـ”أهالي الخير” من المنطقة “لحماية أهلها من الأوبئة والمخاطر المحدقة بهم جراء تراكم القمامة” على حد قوله.

حلول مؤقتة

وبالفعل كانت نتيجة الاستغاثات إيجابية حيث تبرع عدد من “الخيرين ورجال الأعمال” بمبالغ مالية تم دفعها لإحدى شركات التنظيف التي قامت منتصف يوليو بتنظيف شارع 20 رمضان، إلا أن القمامة عادت وتكدست فيه من جديد.

“لن تنفع عملية التنظيف وسترجع الأرصفة إلى ما كانت عليه قبل أقل من ساعتين، وهذا عن تجربة” بهذا علق عمران علي سالم سائق شاحنة قمامة تابعة لشركة بوابة أفريقيا أثناء قيامه وزملائه بعملية تجميع القمامة في شارع 20 رمضان مطلع الأسبوع الماضي.

المشكلة حسب سائق الشاحنة تكمن في قلة وعي المواطنين الذين لا يلتزمون بإخراج القمامة في مواقيت ثابتة، ويرمونها في أي مكان كيفما اتفق، بل ويقوم بعضهم “بإلقاء أكياس القمامة من نافذة سياراتهم في منتصف الطريق دون مراعاة للذوق العام”.

نبدلها بالنعناع!!

لكن مفتاح هلال مدير الشركة التي يعمل بها سالم قال لـ”مراسلون” إن بإمكان شركته “العمل بأسطول جديد من سيارات نقل القمامة على ثلاث دوريات منتظمة” وفق مقترح تقدمت به لشركة الخدمات العامة، إلا أنهم توقفوا عن تقديم الخدمات بسبب عدم دفع مستحقاتهم منذ ما يزيد على أربعة عشر شهراً، حتى وصل الدين قيمة ثلاثة مليون وخمسمائة ألف دينار ليبي.

وأشار إلى باقة نعناع فواحة كانت تزين مكتبه قائلاً “لو صدقت نوايا شركة الخدمات العامة يمكننا جعل الأرصفة تتزين بالنعناع بدل القمامة”.

وهذا ما أكده كلام السائق الذي علق متذمراً “كيف يريدوننا أن نعمل ونحن لم نستلم مرتباتنا منذ ثلاثة أشهر وبيننا أجانب لديهم التزامات إيجار والتزامات أخرى تجاه أهاليهم في بلدانهم، فليعطونا حقنا ونحن مستعدون للعمل ليل نهار”.

مخاطر بيئية

زاوية أخرى انطلق منها الدكتور المبروك محمد كريشان رئيس وحدة الإصحاح البيئي بوزارة الإسكان والمرافق حين قال “لاحظ الجميع زيادة انتشار الذباب والبعوض وغيرها من الحشرات الأخرى في الجو، وهو ما يدعونا لأن نطالب بتنظيف ورش وغسل أماكن القمامة يومياً بعد أن يتم نقلها مباشرة منعاً لانتشار القوارض الضارة”.

وبحسب اعتقاده فإن أكوام القمامة باتت تشكل خطراً على الإنسان والحيوان والنبات بالمدينة حيث رصدت الوحدة ملاحظات حول جفاف الأشجار في الطرقات، رافضاً فكرة قيام المواطنين بحرق النفايات “بشكل تقليدي وغير حضاري” على حد وصفه، وهو ما يتسبب بدون وعي منهم في زيادة المخاطر الإنسانية.

كريشان تحسر أيضاً على إهمال الحكومات المتعاقبة استثمار القمامة، “ما يتسبب في ضياع ثروة هائلة بين الحرق أو الطمر بدلاً من إقامة مصانع تدوير كانت ستعود بفائدة اقتصادية كبيرة على ليبيا، وتؤمن مواطن عمل للشباب العاطلين عنه”.

لا نملك نقوداً!!

كل هذه التساؤلات توجه بها “مراسلون” لشركة الخدمات العامة، التي أقر مديرها بشير العكوني بوجود أزمة سببها مالي بحت، حيث تسبب عدم صرف ميزانية الشركة بتأخر دفع مرتبات العاملين فيها وتأخر صرف مستحقات الشركات المساندة التي رفض البعض منها الاستمرار في تقديم الخدمة رغم سريان العقود الموقعة معهم، ما أحدث ضغطاً كبيراً على الشركات المستمرة في أداء عملها

حسب العكوني فقد تجاوزت الديون المتراكمة على الشركة 23 مليون دينار ليبي عدا المصاريف التشغيلية الأخرى، ورغم ذلك لا زالت هناك 7 شركات تقوم بعملها رغم تأخر دفع مستحقاتها، إلا أنها لن تتمكن من الحد من تراكم القمامة في العاصمة.

كمية القمامة المطلوب من الشركة نقلها بشكل يومي بلغت 2700 طن، وهي أكثر من ضعف الكمية التي لم تتجاوز خلال الأعوام الماضية 1200 طن حسب العكوني، وذلك بسبب زيادة الكثافة السكانية بالعاصمة التي أصبحت ملاذاً للنازحين من مختلف المدن.

وبسبب الظروف الأمنية غير المستقرة يحدث أن تقفل الطرق المؤدية للمكبات الرئيسية خارج العاصمة مثل مكب سيدي السائح، وهو ما يزيد من تراكم القمامة في الشوارع.

وبحسب صالح اشتيوي أحمد مشرف نقل القمامة بمكب سيدي السائح فإن أغلب المكبات مغلقة، ويعمل مكب سيدي السائح بكامل قوته التشغيلية ويستقبل يومياً أكثر من مائتي حمولة خلال مواعيد العمل الممتدة من الساعة التاسعة صباحاً وحتى السادسة مساءاً، ولكن المشكلة تتطلب فتح المكبات المرحلية مثل مكبي تاجوراء وبو سليم المغلقة حالياً بالكامل حسب المشرف.